د. عقيل عباسفي ربيع ٢٠١٠ كنت أستمع لكلمة عن العراق ألقاها رايان كروكر، السفير الأميركي الأسبق، وربما الناجح، في العراق، أمام جمهور غربي صغير. عند تقييمه الزعماء العراقيين، في إطار القلق من هيمنة إيرانية، أو خارجية أخرى، على القرار السياسي في بغداد، بدا كروكر شبه واثق إن أمرا كهذا لن يحدث بحسب وصفه الذي دعمه ببعض الأمثلة فان الزعماء العراقيين،
وذكر بالاسم نوري المالكي وإياد علاوي وطارق الهاشمي وآخرين لا أتذكر اسميهما، ساسة وطنيون، صلبون، أشداء، لا يريدون عراقاً تابعاً، بل بلداً قوياً ومزدهراً. رجّحَ الرجل أنهم في آخر المطاف سيقومون بما هو صحيح من اجل بلدهم، برغم كثرة خلافاتهم وشدتها، وبرغم الضراوة التي يسعون بها لتصفية هذه الخلافات لصالح كل منهم على حساب الآخر. قد يكون كروكر وضع إصبعه على مكمن الجرح العراقي دون أن يدري. انها الشراسة، ذلك المضي الحاد إلى الحد الأقصى، إلى آخر ما يسمح به المُضي، وراء أمر ما، مضيٌ حاسم، وجارح، دون خوف أو توقف، حتى بلوغ الهدف.. وحتى عند الفشل في هذا البلوغ المبتغى، فإن السبب عادة ً ليس غياب الرغبة أو الاستعداد للمضي إلى أقصى الشوط، بل افتقار القوة اللازمة للحسم، بسبب القوة المضادة للآخر، أو الحضور القوي لطرف ثالث، يصعب تجاهله أو الالتفاف عليه. لم تكن السياسة في العراق يوماً رحيمة أو متفهمة.. تاريخياً، افتقرت إلى آليات مدنية لحسم الصراعات على نحوٍ يحترم كرامة الخاسر ويبقي له حصة ما في الصفقة، للحفاظ على وقار اللعبة وإلزام قواعدها. لسوء الحظ، كانت السياسة في العراق الجمهوري، الذي أسسه العسكريون وشكلوا قيمه الأساسية، بدويةً، وحاسمة، وقاسية كحياة مؤسسيها المهنية، وأحيانا الشخصية، خصوصاً في إصرارها على ثنائية الغالب والمغلوب، تلك الثنائية القادمة من عالم الغابة بشراسة صراعاته ودمويتها. الغالب يحمل كل شيء والمغلوب يفقد كل شيء : الانتصار، كما الخسارة، نهائي وقاطع، ولا يبالي بالطرف الآخر. برع صدام كثيراً في تكريس شراسة الغالب في حياة السياسة والمجتمع في البلد ودفعها إلى أقصى مديات القسوة الممكنة ليحصد ثمارها حكماً مطلقاً خالياً من الضوابط والرقابات. أغراه نجاحه في توظيفها ضد خصوم الداخل باستخدامها ضد خصوم الخارج ليرتكب بذلك الحماقات الفادحة المعروفة التي أودت به وبالبلد. فهمَ إن شراسة السياسة هي امتداد منطقي لشراسة المجتمع والعنف الكامن فيه: اتكاء أفراد المجتمع على العلاقات الأولية (العشيرة، الطائفة، المنطقة) وليس العلاقات المؤسساتية لحماية أنفسهم وصيانة مصالحهم. هكذا ألغى بقايا الروح المدنية التي تراكمت على نحو بطيء وشحيح منذ تشكيل العراق الحديث في العشرينات من القرن الماضي. لم يبدُ رئيسُ الوزراء، نوري المالكي، خارجاً عن نطاق هذه الثقافة عندما أصر، في علانية الواثق بالانتصار، على اعتقال نائب رئيس الجمهورية، طارق الهاشمي بتهم الإرهاب. إذلال الهاشمي بعصا القضاء وبؤس الاعتقال، يُعد جزءاً من طقوس هزيمة الخصم على نحو قاطع ونهائي. لا يختلف مسعى المالكي هذا كثيراً عن مسعى فاشل لرئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي في ٢٠٠٤ عندما أصر في ثقة مشابهة على إحضار مقتدى الصدر أسيرا إلى بغداد، بعد هزيمته العسكرية المفترضة في النجف، كما جاء على لسان احد وزرائه حينها. بين هذين المشهدين، ثمة مشاهد عراقية كثيرة شبيهة يميزها ذات الزهو الواثق والرغبة القاطعة في الانتصار وهزيمة الخصم: اجتثاث البعث، كتابة الدستور، حرب الطوائف، ملف النفط، كركوك، الفيدرالية وغيرها كثير.. يميز هذه كلها شراسة خلافاتُ الفرقاء حولها، خلافاتٌ عميقة وواسعة ومتوعدة، لا يتردد هؤلاء الفرقاء إزاءها عن دفع الأمور نحو حافة الهاوية، وحتى النزول في قعرها، إذا كان في هذا النزول إيذاء اكبر للطرف الآخر. ملفات عراقية كثيرة كان سيحسمها منطق الغالب أو المغلوب هذا لولا إدراك الأطراف المتنازعة إن شراستها غير كافية لحسم الصراع بسبب شراسة الطرف الآخر التي لا يمكن دحرها أو بسبب الوجود الأميركي الذي تحول تدريجياً إلى حضور وسيط يحول دون حسم بعض الصراعات على أساس هذا المنطق الضيق. ليس غريباً إذن أن يكون الانسحاب الأميركي قد فتح شهية بعض القوى على اختبار قدرة شراستها على الحسم سواءٌ على حافة الهاوية أو في قعرها. يقع اتهام الهاشمي بالإرهاب في هذا الوقت في ذات التقليد الشرس للمواجهة. قد يكون الرجل مذنباً فعلاً بما اتهمه المالكي به فهو وسواه من ساسة الطوائف، وبينهم صاحب الاتهام نفسه، ساهموا خطاباً وأفعالا في دفع البلد نحو مهاوي العنف والضياع والفشل. لكن ما يثير الشك في نوايا المالكي ويُضعف صدقيته بهذا الصدد هو أن إدارته هذا الملف يشوبها تناقض حاد: إصرار مفرط على أن القضية قضائية تماماً ولا علاقة لها بالسياسة، فيما التوقيتات والإعلانات والقرارات بشأنها سياسية.&am
الغابة السياسية تحكم العراق
نشر في: 3 يناير, 2012: 06:32 م