حسن الجنابي* في نيسان عام 2002 أنجز العالم النرويجي الكبير، الانثروبولوجي والمستكشف والمغامر الفذ تور هايردال (Thor Heyerdahl) رحلته الأخيرة إلى الموت، بعد 87 عاما ركب خلالها البحار والمحيطات بحثا عن حقيقة ضائعة أو عن شعب بدائي معزول أو عن نظرية آمن بها ولم يجد من يؤيدها من سابقيه أو مجايليه!
لم يغامر حبا بالمغامرة المحضة بل بحثا عن الحقيقة، ولم تكن مغامراته عنادا أو تهورا بل إيمانا وعزما واستعدادا غير محدود على التضحية، وقدرة فائقة على الخروج بالفكرة الأصيلة من إطار النظرية والتجربة الذهنية إلى عالم التطبيق غير القابل للدحض، وخروجا بالحوار والجدل إلى مدياته التطبيقية القصوى بدلا عن حصره في بطون الكتب والمقالات المحدودة التوزيع.وفي نيسان عام 1978 وقف هذا الرجل العظيم على ساحل جيبوتي ليودع سفينة البردي "دجلة" وداعاً تراجيدياً وذلك بإحراقها احتجاجا على سباق التسلح والحرب الباردة وتجارة السلاح والحروب التي يعدّها ويخرجها الأثرياء الكبار ويمثلها الفقراء على جثث أبنائهم وخراب أوطانهم في الصومال وإثيوبيا وغيرها.لقد صنع هايردال سفينة "دجلة" من البردي العراقي في صيف عام 1977 في أهوار الجنوب، إلى الشمال قليلا من مدينة القرنة، ملتقى الرافدين دجلة والفرات، وصيرّها كأكبر سفينة من نوعها في التاريخ بطول 18 مترا، وأبحر بها عبر الشطوط والخلجان والبحار والمحيطات لمسافة قاربت السبعة آلاف كيلو متر، محاولا إثبات نظريته المثيرة للجدل حول أصل الحضارة، وليقول أن مصدر الحضارة الإنسانية هو واحد، وإن مسقط رأسها هو العراق!.كان هايردال يعتقد إن تزامن بزوغ فجر الحضارة البشرية في العراق ومصر وشبه القارة الهندية لم يكن صدفة، بل كانت تلك الحضارات القديمة مترابطة، وإن سكان وادي الرافدين القدماء كانوا يبحرون إلى نظرائهم سكان وادي السند في شبه القارة الهندية وسكان وادي النيل في مصر بواسطة مراكب صنعت من البردي وكانت قابلة للإبحار إلى مسافات بعيدة، وقد استخدمها أجدادنا القدماء في نقل معارفهم وعلومهم إلى البقاع النائية على الضفاف الأخرى للبحار الشاسعة.شرع هايردال في السبعينات، كعادته في مغامراته السابقة في مجاهل المحيطين الهادئ والأطلسي، بمحاولة الإجابة عن أسئلة الحضارة الأولى: أين ومتى ومن وكيف؟ وفي ضوء دراساته المعمقة تاريخ الحضارة ومعاينته واقع الأهوار العراقية والتحقق من شروطها المحلية، ازداد قناعة بصحة آرائه القاضية بوحدة الحضارة البشرية، أي بقدرة السومريين الأوائل على الاتصال بالبقاع النائية في الهند ومصر، فقام بتجميع فريقه الأممي وعكف على وضع تفاصيل رحلته الأسطورية على متن سفينة البردي التي بناها من البردي المقطوع في شهر آب، بناء على نصيحة شيخ من المعدان تقول بأن البردي المقطوع في شهر آب والمجفف يطفو لمدة أطول ويقاوم التآكل الذي تسببه المياه المالحة.لقد اعتمد هايردال في مشاريعه بالدرجة الأساس على مرتكزات ثلاثة وهي:- علميته ومعارفه وبحوثه في التراث القديم ومخيلته اللامحدودة بل والجامحة في قدرتها على الذهاب بعيداً عما تتيحه مفردات الواقع المعتادة، وفي اجتراح مشاريع هي أقرب إلى اللاعقلانية منه إلى روتين المؤسسات القائمة بما فيها المؤسسات العلمية التي تعتبر رصينة.- التواضع والركون إلى خبرة السكان المحليين في القرى والجزر المنعزلة، في تركيب سفنه البدائية وفي استخدام معطيات بيئتهم الطبيعية، وتجنب استخدام أية مادة مستوردة من خارج المحيط الجغرافي الذي يبحر فيه، بل الاعتماد الكلي على المواد المتاحة للاستخدام من قبل الشعوب القديمة.- قدرته على اختيار طاقمه من شعوب ومناطق متباينة استنادا إلى فراسته وإحساسه الفطري في تقييم خصالهم النوعية وقدراتهم ومهاراتهم المميزة المطابقة تماما لشروط حملاته الاستكشافية ومغامراته العلمية.لقد نجحت سفينة البردي دجلة في اقتحام عباب البحار وصولا إلى شبه القارة الهندية وعودتها عبر البحر العربي وخليج عدن نحو ارض الفراعنة عبر البحر الأحمر. إلا أن شدة التوتر العسكري والحرب الصومالية – الإثيوبية المدعومة من الدول الكبرى، وانتشار الأساطيل البحرية للدول العظمى لم يسمح لسفينة البردي التي تحمل علم الأمم المتحدة بالمرور إلى هدفها النهائي. فبعد خمسة أشهر من الإبحار إلى مراكز الحضارة الأولى، وفي ضوء مداولات مؤلمة مع فريقه، قرر هايردال حرق سفينته قبالة ساحل جيبوتي، التي سمحت باستقبال العالم الكبير وزملائه، وذلك احتجاجا على الحروب والتدمير والنزعات العدوانية. كما نشر رسالته الشهيرة إلى السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك كورت فالدهايم في 3 نيسان 1978وجاء فيها:"اليوم وبمناسبة انتهاء الرحلة التجريبية لسفينة البردي دجلة بطاقمها الأممي ، نعبر عن امتناننا لسيادة السكرتير العام للسماح لنا بالإبحار تحت راية الأمم المتحدة، ونحن نفخر بإعلامكم أن الهدف المزدوج لحملتنا قد تحقق كاملا.كانت تجربتنا رحلة إلى الماضي تهدف إلى دراسة خصائص مركب بحري لما قبل التأريخ صنع وفق الأسس السومرية العريقة. لكنها كانت رحلة إلى المستقبل أيضا لإثبات أن الكوكب يتسع للتعايش السلمي بين البشر الساعين للعيش المشترك. نحن ا
حرق دجلة من أجل السلام.. الذكرى العاشرة لرحلة هايردال الأخيرة
نشر في: 4 يناير, 2012: 08:18 م