TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: الصحراء بوصفها فنّاً جميلاً

تلويحة المدى: الصحراء بوصفها فنّاً جميلاً

نشر في: 6 يناير, 2012: 06:38 م

 شاكر لعيبي(1)كيف يمكن قراءة صورة فوتوغرافية ملتقطة للصحراء؟عندما يضع الباحث أمامه صوراً فوتوغرافية لصحراوات نيفادا والجزيرة العربية وناميبيا وشمال أفريقيا مثلاً، ويتأملها من أجل أن يقوم بقراءة سيميولوجية متعددة الدلالات سيحار قليلاً، وقد تستعصي الصحراء على منطق التحليل التقليدي
لقد جرى التشبث غالباً بتأويلات من طبيعة أدبية، شعرية في قراءة الصحراء. وقد ظل (الأدبي) الشعري طاغياً في القراءات والتأملات أكثر من (البصري) السيميوطيقي، كأن الصحراء ليست من طبعٍ ولغةٍ لصيقةٍ بالبصريات ودلالاتها ومعانيها الداخلية. إذا صح هذا القول وجب التساؤل عن السبب، ثمَّ البحث عن قراءة أخرى ممكنة للصحراء واللقاء بعناصر هذه القراءة في مكان آخر غير منطق الأدب أو الفلسفة.قبل نزول المركبة الفضائية الأمريكية أبولو 11 على سطح القمر، كانت قراءة (صورة القمر) المرئية من أرضنا من طينة شعرية ، بل قراءة شاعرية تحتوي الكثير من العناصر التخيّلية والإسقاطية.من بُعْدٍ بعيد، كانت الدائرة التي هي القمر، بالنسبة لإمكانات عيوننا الآدمية، بمثابة كرة مستوية لا تعاريج فيها ولا تضاريس. كانت كرة حلمية، نعرف، أن تغير شكلها إنما هو بسبب سقوط ظل الأرض عليها. بل أن الأرض الساقط ظلها على القمر والبادية في تغيرات القمر من هلال إلى بدر، تغدو، هذه الأرض، أرضنا، محض ظلٍّ كونيّ ناءٍ لا سطح فيها ولا نتعرّف البتة الى تجاعيدها التي نعيش بين ظهرانيها.وحتى عندما هبط الإنسان على القمر والتقط لسطحه صوراً ناصعة، فإن تلك الصور بدت من جديد من غير عمق بصري، وذلك لسبب بسيط يهمنا هنا هو أنها صحراوات مطلقة ذات رمال وأحجار متشابهة. لنترك القمر ونذهب إلى صور كواكب أبعد منه في الفضاء التقطتها النازا: المريخ. أمامها سنعتقد بأننا أمام لوحة تجريدية. في التجريديّ ثمة السطح أولاً ولا أثر بالطبع لعمقٍ فيزيقي أو إيحاء بالعمق وفق قانون البعد الثالث المُسْتَخرج بتطبيق المنظور الخطي في الرسوم التشخيصية. هذه الصورة هي لوحة للمطلق من دون أبعاد. سنجازف بالقول هنا أن من المحتمل جداً أن تكون واحدة من مميزات المطلق هو اختفاء الأبعاد الفيزيقية المحددة المعروفة بالنسبة إلينا. كل ضروب التأمل مباحة في تأمل هذه الصورة. سنلجأ إلى مقارباتنا الأرضية وأشيائنا الصغيرة الحميمة، وقد نقول إننا أمام خدوشٍ على حائط، وأمام خصلة من الشعر مرّ عليها مشطٌ خشبيٌّ. لا نعرف على وجه الدقة على بعد كمْ من الآلف أو ملايين الكيلومترات التقطت هذه الصور.لكن حقيقة التجريد لتلك الصورة ستنجلي لنا في صور أخرى للكوكب نفسه أقل تجريدية، ملتقطة بدورها من مسافة بعيدة ومن مسقط علوي نسميه نحن الفنانين بـالغطسة (plongé)، أقرب لسطح الكوكب عينه: إننا أمام صحراء نعرف شبيهاً لها، خدوشها القليلة وما نحسبه حفراً ذات عمق، تندغم في الاستواء العام السائد في كلية الصورة التجريدية. إن اللون البنيّ السائد ضمن تدرّجاته ولُوَنياته، ليس سوى ذرات رمال الكوكب غير المتناهية العدد والمتشابهة التي تغطي صحراء الصورة. هذه النتيجة تطلع، على الأقل، من (إدراكنا البصري) ذي التجارب الطويلة التي قعَّدتْ، لا شعورياً، قواعد للبصر. إن العين، عيننا، التي ليست من طبيعة عيون الأرباب، تذهب فوراً لما هو ناتئٌ وإلى أشكال الأخاديد (ما تظنه أخاديد) في سطح هذه الصحراء طالما لا توجد نقطة استدلال، (مَعْلَم) أخرى في الصورة. مَعْلَم يستطيع استجماع قوى إدراكنا لكي يتلمّس موضوعاً مجسّماً آخر. في جل الصور للكوكب الصحراوي النائي لا توجد كذلك علامات استدلال كأننا أمام قطعة من سطح، حائط أو أرضية مبنية بالإسمنت الرمادي (والإسمنت يتكون من الرمل كذلك) ومسوّى بالمِلْوَق. لقد سّوى عامل البناء الكوني الجزء الأيسر في بعض المناطق بينما ترك مرورُ ملوقه بعض الضربات والحُبيبات والأجزاء المخدّشة هنا وهناك كما يفعل بالضبط عندما يسوّي عتبة الدار في كرتنا الأرضية.في الصور لا نرى سوى تجريد لوني وضوئي عام، ولا نميّز سوى دائرتين متداخلتين هما، بدورهما، شكلان تجريديان. استخدامنا لمجاز مِلْوق البنّاء الذي سوّى السطح الأيسر من كوكب المريخ يدلّ على أهمية فكرة اليونانيين القدماء بشأن الميكروكوزم Microcosme والماكروكوزم Macrocosme، أي ما ترجمه إخوان الصفا (بالعالم الصغير) و(العالم الكبير)، قائلين أن كليهما يطويان بعضهما ويتضمنان بعضاً. هذه الفكرة مهمة في التأويل البصري لصور الكواكب التي التقطتها لنا المركبات الفضائية. لكنها مهمة في تقديم تفسير بصري لصور الصحراوات على أرضنا كما سنرى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram