أحمد عبد الحسينماذا لو أنك استيقظتَ ذات يوم ووجدت نفسك في ثلاجة حفظ الموتى تحيط بك الجثث؟ تبدأ بتلمس جسدك، تفرك عينيك، تتأكد أنك حيّ، ثم إذا لم يكن الرعبُ قد ألجمك وشلّ جسدك ولسانك فإنك سوف تصرخ حتماً بكل ما أوتيتْ من قوّة، لكنْ .. من سيسمع صراخاً قادماً من ثلاجة الموتى، نحن بالكاد نسمع صراخ الأحياء ونأبه له، الأحياء يستغيثون بنا كلّ حينٍ ولا من سامع، فمن سيلتقط صرخة الجثث؟
ليس هذا كابوساً، رغم أن الحاجز الفاصل بين الحقيقة والكابوس يكاد ينعدم في العراق اليوم.قبل أيام فتح خمسة شبّان عراقيين أعينهم فوجودوا أنفسهم وسط أكوام الجثث في ثلاجة، ولم يكن الشبان الخمسة موتى، بدليل أنهم صرخوا، خبطوا بأيديهم على باب الثلاجة ولم يأتهم سوى صمت الأحياء المشابه لصمت زملائهم الموتى الذين يشاركونهم السكنى في ثلاجتهم التي جمعتْ لأول مرةٍ الحيَّ بالميت.العملية الإرهابية التي جرتْ في البطحاء غربي الناصرية الخامس من الشهر الجاري قتلت خمسين شخصاً وجرحت أكثر من مئة، المئة والخمسون من الجرحى والقتلى معاً نقلوا إلى "مستشفى الحسين التعليمي"، ووزعوا إلى فئتين: المئة للعلاج والخمسون للثلاجات.وحدث أن خمسة أشخاص كان قد أغمي عليهم نتيجة الصدمة ونزف الدم وضعوا في المكان الخطأ، نقلوا أحياء إلى الثلاجة وأمضوا هناك يومين كاملين قبل اكتشاف هذا الخطأ "البسيط"!أبلغت السلطات أهاليهم باستشهادهم وجاءوا لتسلم جثامينهم لكن الصدمة الكبرى حدثت حين فُتحت أبواب الثلاجة وخرج الموتى ـ الأحياء، خرجوا نصف موتى ونصف أحياء، خائري القوى من اليأس والاستغاثة ومجالسة الجثث ونزف الدم والبرد والجوع والعطش.جريدة الناصرية الإلكترونية أوردت الخبر عن شهود عيان، وقبلها إذاعة الهدى نقلاً عن الناشط المدني السيّد صلاح الحصيني كما أوردته لاحقاً شبكة "عراقنا" الإخبارية نقلاً عن مصادرها في الناصرية، وفي الخبر إن اثنين على الأقلّ من هؤلاء الخمسة الذين قاموا في اليوم الثالث من بين الأموات، ماتوا فعلاً بعد ساعات من نقلهم لتلقّي العلاج.نفهم أن ارتباكاً يحصل بعد كارثة كهذه، لكنْ ... أليس هناك فريق طبيّ متخصصّ هو من يقرر إن كانتْ هذه الكتلة من اللحم والعظام جثة أم جسداً، أم أن الأمر متروك لمعرفة وخبرة ودراية مسعفين يحملون كل ما لا يتحرك إلى الثلاجات ليعينوا الإرهابيّ في إتمام عمله "الناقص"؟!أيّ كابوس عاشه هؤلاء الخمسة على مدى يومين، في برزخ على هيئة ثلاجة بين الموت والحياة، أية دراما عميقة وموحية وفيها إبداع خيال جامح لولا أنها حقيقة، لولا أنها تحفة فنية مصغرة عن حياة عراقية تكاد تكون مثالاً لما نحن عليه: أحياء يظننا الجميع موتى، نستصرخ ولا من يصغي، نستغيث وما من أحد، ويأتي منقذنا بعد فوات الأوان، دائماً بعد فوات الأوان يأتون ويعرفون أن بين ركام الجثث أناساً أحياء كان يمكن إنقاذهم لو أن "المنقذ" كانت له أذنان يسمع بهما.يا ناس .. نحن الذين في ثلاجة الموتى، هذه آخر أنفاسنا، تعبتْ أيدينا من الطرق على الجدران، نحن نستغيث .. فهل من مجيب؟
قرطاس: فـي ثلاّجة الموتى
نشر في: 10 يناير, 2012: 06:15 م