حسين عيد القاهرة تغمر أسواق الكتب والمكتبات يوميا أعداد متزايدة من مجموعات قصصية، دأبت دور النشر على إصدارها في مختلف أرجاء الوطن العربي الكبير، ربّما يشعر(القارئ) بالحيرة إزاء هذا الكم الهائل، وقد يراوده سؤال: ماذا (يحكم) تكوين مجموعة (جيدة) من عدد من(القصص) القصيرة؟! لعل هناك وهما شائعا بين القراء، انه بمجرد أن يتوافر لأيّ كاتب عدد معين من القصص القصيرة، فإن ذلك يضمن له تكوين مجموعة قصصية سرعان ما يعجّل بنشرها في كتاب يحمل اسمه.
وهذا خطأ فاحش لا يلجأ إليه الفنان الحقّ عادة، ولنأخذ للمثال أستاذنا نجيب محفوظ – رحمه الله – خلال بداياته الأولى، حين بدأ اهتمامه بالقصة القصيرة ونشرها، أثناء دراسته الجامعية في كلية الآداب وبعد تخرجه منها، أي منذ عام 1932 وحتى عام 1946، حين توقف نهائيا عن كتابة القصة القصيرة، بعد أن بلغ ما نشره في الدوريات خلال تلك الفترة 73 قصة، لم يقبل على نشرها في أي مجموعة قصصية، بل لو ترك الأمر له وحده لما وافق على أن ينشر أي مجموعة منها. أما مجموعته القصصية (الأولى) "همس الجنون" التي نشرت عام 1946، فلها قصة لأن نجيب محفوظ لم يكن يفكر في نشر أي مجموعة من هذه القصص، وهو ما أوضحه – في حوار مع جمال الغيطاني ، في كتاب "نجيب محفوظ يتذكر" ( 1980 ) – حين قال "الذي اختار مجموعة "همس الجنون" هو المرحوم عبد الحميد جودة السحار. لم أكن أريد نشر هذه المجموعة. كنت قد نشرت قبلها الروايات التاريخية الثلاث والقاهرة الجديدة وزقاق المدق، وجاء ليقول لي : لماذا لا تصدر مجموعة قصصية؟ قلت له أي مجموعة الآن؟.. لقد فات أوانها، أنا لم أكتب القصة القصيرة بهدف كتابة القصة القصيرة "ثم استطرد موضحا:"أنا كتبت روايات ودرت بها على الناشرين، الذين رفضوا نشرها. ولأنني كنت أريد أن أنشر فقد كتبت القصة القصيرة". وهو نفس ما أكده في حوار آخر – بكتاب "نجيب محفوظ : حياته وأدبه" ( 1986 ) : نبيل فرج – حين قال "أول قصص كتبتها لم يكن الدافع إليها فنيا، ولكن عجزي عن نشر الرواية جعلني أتسلى بكتابة القصة القصيرة". كما أضاف مبررا آخر لإقباله على كتابة القصة القصيرة ، حين قال – في حوار منشور بمجلة "المصور" في عدد خاص بتاريخ 21 أكتوبر 1988 – "جاء وقت قبلت فيه الأقصوصة فانصرفت إلى كتابتها ونشرها، وان لم أمتنع في الوقت نفسه عن كتابة الرواية". والآن إذا نظرنا إلى موقف نجيب محفوظ بمفهوم المخالفة، فيمكن أن نستنتج أن (الشرط) الأول اللازم توافره في القصص، التي تصلح أساسا لتكوين مجموعة قصصية (جيدة)، هو أن يكون الدافع إلى إبداعها (فنيا)، بمعنى وجود (ضرورة) حياتية فرضت إبداع هذا النوع الأدبي، ولم يكن فقط مجرد التسلية أو سهولة النشر! وهذا درس يجب أن نتعلمه من أستاذنا الكبير، فعلى الرغم من أنه كان في بداياته الأولى يحتاج إلى دعم وجوده الأدبي، إلا أنه لم ينسق وراء هذا الأغراء، ورفض (واعيا) أن ينشر تلك القصص في أي مجموعات، ويرجع الأمر إلى تفهم أديبنا الكبير لطبيعة العملية الفنية، وأنه بقدر ما تعتمد عملية الإبداع على (لا وعي) الكاتب وذاكرته، فإن عملية تنقيح الناتج ونشره تخضع إلى (وعي) الكاتب ومحصلة خبراته بما يستحق أن ينشر، ليكون خير ممثل لإبداعه في المستقبل القريب والبعيد على حد سواء! أوضح المثال المستمد من تجربة نجيب محفوظ أهمية (وعي) الكاتب بما أنجز، من زاوية (الدافع) إلى الكتابة، وقيمة الناتج القصصي (الفنية). لكن توافر هذا الشرط (وحدة) في عدد من القصص التي أبدعها الكاتب، لن يكون كافيا لتكوين مجموعة قصصية جيدة، بل يمثل فقط ركيزة أساسية يقوم الكاتب بالاختيار منها، وفق شرط آخر لا يقل أهمية، لأن العنصر الحاكم في هذه المرحلة ليس هو (الكم)، إذ لا يكفي مجرد تجميعها معا، بل لابد من توافر عنصر (التجانس)، الذي يحقق لها (وحدة) فنية ، لأن الأصل في مجموعة قصصية جيدة، هو أنها (رسالة)، موجهة إلى قارئ خاص، من أجل أن توفر له قدرا من المتعة الجمالية أثناء (القراءة)، وهو ما يحققه تجانس قصص المجموعة أو وحدتها الفنية، حتى تتيح للقارئ أن يلج عالمها الفني المتسق، وأن يتجوّل بين أرجائه بحرية، (مشاركا) المبدع في ما سبق أن توصل إليه من نتائج وما استبصر من رؤى! وللتجانس في قصص المجموعة درجات، لعل أعلاها أو صورتها (المثلى)، هو أن يشعر القارئ وهو يتناولها بأنه يقرأ عملا (متكاملا). مثال ذلك مجموعة يحيى مختار (الأولى) "عروس النيل" ( 1992 )، التي يرجع امتيازها، إلى نضج قصصها الأربع فنيا والى (ترتيبها) المتناغم المتصاعد، والى (وحدة) العالم الذي تشكله حتى ليبدو الأمر كما لو كنت تقرأ رواية تعيد ابتعاث قرية "الجنينة والشباك" من عالم ( النوبة) القديم في جنوبي مصر، الذي اندثر بعد أن غطته مياه السد العالي. وربما من أجل هذه العوامل وغيرها نالت هذه المجموعة جائزة الدولة التشجيعية في القصة القصيرة عام 1993! مثال آخر لتلك الصورة (المثلى) لتجانس قصص المجموعة، مستمد من وحدة (العالم) الذي تقدمه مجموعة "القفص" (1990) للكاتب الليبي إبراهيم الكوني الذي ارتحل فيها إلى عالم (الصحراء) الأثير لديه، والذي أخلص له
وجهة نظر.. إشكالية تكوين مجموعة قصصية جيدة!
نشر في: 16 يناير, 2012: 06:17 م