محمد خضير ذلك الفرد المشهور بين الجموع، صارعَ الموتَ وحيداً في (مطهر) المستشفى المسمّى (العناية المركّزة). وكما حدث في قصة الإيطالي دينو بوزاتي، هبط محمود عبد الوهاب من الطوابق العليا إلى قاع المستشفى ليصارع رسولَ الموت،
كما صارَعَه بطلُ فيلم انغمار برغمان (الختم السابع) على رقعة شطرنج، وكان المرقاب المعلّق فوق سريره يسجّل مراحلَ هذا الصراع بأرقام ونبضات وخطوط متعرّجة. رُبِطَ أخيراً إلى أنابيب التغذية وضغط الدم وجهاز التنفس الاصطناعي، بعد أن فكَّ ارتباطه بقوى النضال الاجتماعي وكلمات الحياة الفوضوية. صار في ركن العناية المركزة قريباً من الحافة الأخيرة الصامتة وتوحّد بذاته الهاربة من قبضة الزمن الحديدية. عاد مركّزاً ـ كقصصه ـ بعد أن كان مشتتاً كحياته، صار واحداً بعد أن كان اسماً ضائعاً في أسماء الآخرين. في ذلك الركن البعيد عن صخب الحياة، نظر محمود إلى تقاطيع وجهه في مياه المطهر وعرفَ وِجهتَه الأخيرة، وعثرَ على نصّه الأخير. اكتملت القصةُ العصية على الاكتمال، ومات وحيداً. ذلك المشهور بين الجموع، رحلَ وحيداً بلا شهرة. الشهرة التي صنعها لنفسه انتقلت إلى الحلقة الضيقة التي أحاطت به وقتَ رحيله، كلٌّ أخذَ حصةً منها لنفسه، وورِثتُ من محمود قابليةَ المجاورة والمراقبة لوضع إنساني يصارع الموتَ وحيداً. ورِثتُ مشاهدات وتفاصيل كثيرة في مسيرة كلّ صباح من البيت إلى المستشفى خلال أيام عاشوراء، ورثتُ إطلالةً من نافذة غرفته في الطابق الخامس على أعشاش الطيور في أفاريز الطوابق الخارجية المقابلة، ورِثتُ قبساً من شعلة الحداثة الأولى أرفعُها في درب المستقبل الموحش، ورِثت (شعرية العمر) الملفوف بشرشف المستشفى المتسخ... لكنني رغم هذا الإرث المتعدد الأصناف أشعرُ بعد وفاته بالوحدة والعُطل. ترك محمود عبد الوهاب فراغاً في حياتنا ( كما تترك القصة فجوات لقرائها) لن تسدّه استجابة ضعيفة متدنية عن مستوى خطاب حداثته. عاش محمود اثنين وثمانين عاماً، كل عام منها يمثل قيمة خاصة، زمناً فريداً من نوعه، نسيجاً لوحده. ينتسب محمود عبد الوهاب إلى جيل الحداثة الأدبية الأول في القرن العشرين، إلا أنه عاش بمواصفات ثقافية خارقة استقرّت في ذاته العليا، جعلته لا ينتسب لجيل بعينه. كافح ليديم ذاتية ماكينته الحداثية ويصلح أعطالها مدة السنوات الخمسين الماضية. وعندما توقفت الماكينة نهائياً عن إنتاج نسخٍ جديدة محدَّثة، توقفت أجزاء أساسية من هيكلية الحداثة العراقية النشيطة. نشعر اليوم بالعُطل والعطالة: مع تعطُّل أجهزة محمود الطبية تعطّلتْ حياتنا، ومع توقُّف نَفَسِـه وَقَفَ نَفَسُـنا. سنصمتُ طويلاً قبل أن نواصل الكلام. مات محمود عبد الوهاب وحيداً، ولم يكن في حياته إنسانا وحيداً. كانت معرفته تشعّ مثل هالة أو شعلة يستضيء بها مَن يصاحبه وينادمه، لكن المرض فرضَ عليه طوقاً من الوحدة والهشاشة والأنانية والعطالة الفكرية والأدبية. ثم جاء الموت ليختم على حياته بختم نهائي. منْ يجاور الموت يغدو وحيداً، ومن يراقب إنساناً يموت وحيداً فمَثَلُهُ كمَثَل صفصافة في حقل ضربتْه عاصفة ثلجية. في لعبة الموت، كما في لعبة الحياة الخطرة، لعبة الوضع الإنساني، يشعر المشهورون القريبون من إنسان هالك بوحدتهم ونقص شهرتهم. بعد أن راقبنا (نحن جماعة المقربين من محمود عبد الوهاب) الجسدَ المتدهور إلى القاع البارد، انفضضنا في نهاية اللعبة وسرنا في درب بلا شهرة. شاركنا في تجربة اقتفاء الأثر الرمادي، قرأنا في صورة (المفراس) الدروبَ المتقاطعة مع دماغ محمود عبد الوهاب وفككنا شفرتها، ازددنا معرفة بخطوط الموت التي غطّتْ على خطوط الحظ العاثر ومحاولات الحب الفاشلة وسرديات الحياة البديلة. دخلنا التجربة بلا حذر وحاكينا مريضَ المطهر في لعبته وبادلناه شهرةً بشهرة، وسرداً بسرد. جرّب محمود عبد الوهاب في كتابة قصصه تكنيك المراقبة عن بُعد لكائنات الحياة الإنسانية التي تسير أو تعيش تحت نظره (نظرة من شرفة إلى شارع مزدحم، نظرة من نافذة حافلة أو قطار، نظرة عبر واجهة زجاجية لمقهى أو مطعم). لم يتورط محمود عبد الوهاب في الاقتراب والامتزاج بحياة شخصياته، بالرغم من حميّته ونفاذ نظرته. فضّلَ على مغامرة الاشتباك، تكنيكَ المراقبة البعيدة لكائنات المطهر الليلية (على غرار مراقبته لمرضى الردهة في قصته "على جسدك يطوي الليل مظلته" من مجموعة قصص "رائحة الشتاء"). كان طهرانياً، فأنزله المرض إلى الدرك الأسفل كي يرى بعينيه ويلمس بخياله الجولةَ الأخيرة من نزاع الجسد مع رغباته وغرائزه، وأهمّها غريزة البقاء التي تصارع الموت بضراوة. صارع محمود الموت وخاض مياهه، لكن أعراض المرض غلبتْ أعراضَ الطهارة والجمال، وطُوِيَ الجسدُ الميت بشرشف سريره الأزرق المتسخ بالفضلات، وسيق على سرير متحرك إلى خارج المطهر. عرفتُ محمود عبد الوهاب في منتصف طريقي إلى الشهرة، عندما اتفقتْ قصتانا (نافذة على الساحة) و(الشباك والساحة) بإطلالة مشتركة على مشهد بعيد من مشاهد الحياة في
مات وحيداً
نشر في: 20 يناير, 2012: 06:44 م