 شاكر لعيبي(2)في صورة ملتقطة للصحراء لا توجد نقطة استدلال، أي لا يوجد المنظور الخطي الذي يتعلمه الطلاب في المدارس.  وهذا الأمر يجعلها موضوعاً استثنائياً للتفكير (حتى لا نقول يمنحها أهمية). في صورة الصحراء الفوتوغرافية أكون إزاء مُطـْلَقيْن لا يمتلكان منظوراً خطياً هما الأصفر (الرمل)، والأزرق (السماء). وحتى لو وُجدت مثلاً شجرة يتيمة واقفة بمحض الصدفة في عرائها فهي لن تنفع العين في خلق عمقٍ حقيقي للصورة طالما لا توجد أشجار أخرى في المستوى الأول والثالث مثلاً.
لا توجد "نقطة هروب" في مخطط صور الصحراء حتى لو وُجدت الآن بعض الأشجار المتناثرة. أمامك الآن صورة ملتقطة لصحراء دوز في تونس تظهر فيها بعض النخلات. إن تغيُّر أحجام النخيل لا يغيّر شيئا من فكرة عدم وجود نقطة هروب.وهذا هو المأزق ذاته الذي تقدِّمه التلال الرملية الصحراوية التي توحي أحجامها بوجود تتابع هندسي منطقي، أي منظورٍ ما غير موجود عملياً بسبب اختفاء نقطة الهروب. وحده المخطط الفوتوغرافي الذي يقيم اعتباراً ووزناً للمنظور هو من يستطيع منحي إحساساً  مثل الإحساس الذي ألتقي به في عمل تصويري مبنٍ على أساس تطبيق المنظور، سواء أكان رسما أم صورة لمشهد غير مشهد الصحراء.ليس ثمة ما يساعدني في وسط الصحراء لكي أشعر بكثافة الفضاء ولكي أقرأ شيئاً آخر. ليس أمامي غير الامتداد من دون الحجم ولا الكثافة ولا الأبعاد الهندسية المألوفة. أمام الناظر امتدادات المطلق وحدها. ستتقدم صورة الصحراء الفوتوغرافية والحالة هذه بوصفها تجريداً. غياب المنظور هو ما يمنحها هذه الصفة. هذا المنظور في أشكال التصوير التشخيصي هو، على ما يبدو، ما يمنح الكيانات أبعاداً بصرية ذات كثافة، وهو ما يمنح القريب والبعيد معاني حسب عاداتنا ومداركنا البصرية. الفضاء أزرق لا بُعْدَ منظورياً فيه، والصحراء كذلك رغم أوهام الحجارة الصغيرة التي قد توحي بمنظور زائف. لا وجود تقريبا لنقطتي الهروب point de fuite  والاستدلال point de repère حتى لو أننا، ضِمْن مدركاتنا اللاشعوريةperception، نعرف أن نقطة هروب ما موجودة موضوعياً رغما عنا، لكنها لا تستجيب لعاداتنا البصرية. كل صورة للصحراء في كرتنا الأرضية تؤكد، على ما يبدو، أن خطوط الرمال ليست هندسية البتة كما هو الحال في أشكال الواقع الأخرى التي نستطيع فيها اللقاء بالمنظور الخطي الذي تلتقي فيه الخطوط الهندسية عند نقطة الهروب العتيدة. خطوط صحرائنا متعرجة وغير نظامية. قد نرسم نحن أنفسنا نقطة محددة افتراضية لكننا سنخلق منظورا مخادِعاً  تماماً، وتهرب منه أجزاءٌ مهمة من الخطوط الرملية في جهات عدة من الصورة ذاهبة إلى نقاط هروب أخرى مختلقة تماماً. قد يوجد عمق ولكن ليس المنظور.في الصورة الملتقطة للصحراء ثمة اهتزاز عصيٌّ على الوصف. وثمة فيها إيهام بالمنظور كما كان هناك إيهام به مثلاً في رسوم مدينة بومبيي Pompéi، التي طمرتها الحمم البراكنية قبل عصر النهضة بألف وأربعمائة سنة تقريباً. اهتزاز صحراوي ينقل المشاهد إلى نوع من الرسم البصري optique  كما طوّره فازريللي حيث لا منظور كما نعلم. نقطة الاستدلال في هذه الصور ستكون ملتبسة، فاتجاهات الظلال وخطوطها تذهب في كل اتجاه خلافاً لما يريده المنطق البصري القائم على الأبعاد الهندسية. وإذا ما اعتقدنا لا شعورياً كل مرة بوجود المنظور، إذا ما أحسسنا بوجوده من دون التفكير والتأمل به بوعي، فلأننا نفعل عكس ما يفعل الجالس على رأس طاولة اجتماع رسمية طويلة، إنه لا يفكر البتة بوجود خطين مستقيمين ينطلقان قرب مجلسه ويضيقان في نهاية الطاولة. لا يفكر بوجود المنظور في الطاولة ويبقى يتخيلها مسطَّحة بلا أبعاد هندسية ذات قوانين. صحراء ناميبيا التي يقول لنا إحساسنا أن صورتها تمتلك المنظور، لا تمتلكه بالفعل، وحتى حضور هيئة الإنسان نفسه في الصورة لن يغيّر من الأمر شيئاً كبيراً.من هذه المنطلقات تستعاد الصحراء دوماً بصفتها استعارة كبرى لمفهوم (المطلق) في الأدب الرفيع والشعر العالي والمخيلة الشعبية والعارفة كليهما.