عقيل عباسفي العادة يكون الخطاب السياسي لأية دولة "طبيعية" تعبيراً عن القيم العامة التي تؤمن بها هذه الدولة وتسعى لترسيخها في حياة المجتمع عبر سلوكها وقراراتها. تكمن روح الدولة المدنية الحديثة وتميزها الايجابي في قدرتها على أن تتمثل خطابها في أفعالها، أي في إلغائها التناقض بين إيمانها وسلوكها، وفي العراق الجديد ثمة انفصام حاد بين الخطاب السياسي للدولة وسلوكها الفعلي.
في هذا الخطاب الذي تروج له بدأب ممل الحكومةُ ومعها معظمُ الطبقة السياسية، تزدهر المساواة بين العراقيين كقيمة أساسية ومبجلة غير خاضعة للتجزئة أو المساومة، فيما سلوك الدولة، التي اختزلتها لسوء الحظ الحكومة، يزدحم بالطائفية الاجتماعية والسياسية، التي تلغي تماماً فكرة المساواة، وبتعضيد رسمي وقانوني!. أيضا يُمعن هذا الخطاب في التأكيد على الكفاءة والمهنية في توظيف الناس ومنح المناصب، فيما الولاءات الحزبية والطائفية والعائلية والمناطقية هي الأسلوب السائد في الحالين.كذلك يؤكد هذا الخطاب كثيراً، وعلى نحو مهووس غالباً، مفاهيم السيادة والاستقلال والوطنية والدفاع عنها ورفض التدخل الخارجي فيما الواضح والمؤكد إن لاعبين إقليميين ودوليين معروفين لهم أدوار حاسمة، ومعلنة أحيانا، في إدارة ملفات عراقية كثيرة و"حل معضلاتها"، بضمنها من يتولى المنصب الأقوى في البلد، رئاسة الوزراء. هكذا هو خطاب الدولة العراقية، كما يردده دون حياء أساطين هذه الدولة وممثلوها الرسميون من حكوميين وغير حكوميين: حشد مُفتعل من المقولات المعبأة بالقيم النبيلة والإعلانات المثالية عن الوطن والقانون والمساواة، يقابلها سلوك حكومي وسياسي ينسف هذه القيم تماماً، وهو ما يجعله خطاباً فاقعاً ومهلهلاً، يهزأ بذاكرة الناس ويُزيف الاحداث، ويحوله إلى طنين لغوي لا يستحق التصديق أو الإنصات له. على مدى سنوات تسع قاسية وشحيحة بما يُفرح، أصبحت تناقضات هذا الخطاب ومفارقات السلوك التي تصاحبه يومية ومألوفة إلى الحد الذي فقدت معه قابليتها على إثارة الصدمة أو الفضيحة. لعل آخر هذه التناقضات كانت بخصوص الانسحاب الأميركي من البلد. مرةً أخرى يؤكد هذا الخطاب الميزة الأبرز فيه: افتقاره للصدق… لقد تمحورت تصريحات الساسة الكثيرة وكتاباتهم القليلة عن الموضوع، على نحو استعراضي لا يخلو من الزيف المتعمد أحيانا، حول مقولات إيديولوجية ونمطية اختزلت العلاقة العراقية-الأميركية البالغة التعقيد والتداخل في هيئة صراع مألوف وبسيط وساذج بين قوتين متنافرتين: الاحتلال والتحرير. في ثنايا هذا الخطاب، يجري تصوير انسحاب هذه القوات على انه محصلة ٌ طبيعية لإجماع مجتمعي-سياسي عراقي برز عبر "مقاومة" وطنية واسعة تزعمها الساسة العراقيون، ومن ورائهم وقف شعبٌ متراصٌ ومنسجمٌ في رفضه "الاحتلال الأميركي"… في خضم هذا التبسيط الهائل، يبدو الانسحاب فعلاً اضطرارياً أميركيا يوازي الهزيمة، يقابله انتصارٌ عراقيٌ يُبرز صلابة ً سياسية ً "قيادية" وتماسكاً شعبياً "تابعاً" أجبرا أخيرا "المحتل" الأميركي على الإقرار بـ"هزيمة" الانسحاب، وتجرع مرارتها. ثمة افتراض "إنقاذي" يعتمل في روح هذا الخطاب مؤداه إن هذا الانسحاب يمثل نهاية الشوط لأحزان ومصاعب عراقية تسبب بها "الاحتلال" العسكري الأميركي. كان هذا الافتراض حاضراً على نحوٍ غير موارب في خطب رئيس الوزراء نوري المالكي وتصريحاته عن الانسحاب، وفي تهانيه الهاتفية للعراقيين في اليوم الرسمي المحدد للانتهاء منه، وفي إعلانه الانفرادي، وغير الدستوري، بجعل ذلك اليوم عيداً وطنياً. من الواضح إن الخطاب السياسي العراقي بشأن الانسحاب الأميركي يحاول أن يستعير أقصى ما يمكنه من خطاب التحرير الوطني الذي ساد المنطقة العربية ومناطق أخرى في العالم منذ خمسينات القرن العشرين، في أجواء التخلص من هيمنة القوى الاستعمارية الأوروبية وبروز العالم الثالث ككتلة عالمية صاعدة وحّدت دولَها الشديدةَ التنوع مظالمُ الاستعمار الأوروبي. كانت انتفاضات التحرير الوطني وثوراته تلك لحظات تألق وطني جديرة بالتبجيل خفتت تدريجياً بسبب إخفاق نخب التحرير الحاكمة في بناء أنظمة حكم إنسانية وترسيخ قيم مدنية تتجاوز ثنائية الصراع التبسيطية بين الاحتلال والتحرير. كانت نُذر هذا الإخفاق واضحة في خطاب التحرير نفسه الذي امتاز عموماً بُطهرانية مُفتعلة أفرطت في لوم الآخر الأوروبي على كل مصائب المكان (الوطن) المُحرر، بقدر إفراطها في إعفاء نُخب التحرير وجمهورها "المحارِب" والمتأهب دائماً من واجباتهم التاريخية في تشييد غدٍ وطني وديموقراطي أفضل من الأمس الاستعماري والقامع. لسوء الحظ، تتشابه في هذا الإخفاق نخبُ التحرير الوطني تلك مع النخبة السياسية العراقية الحالية، برغم اختلاف الأسباب. يصعب كثيراً حشرُ التجربة العراقية الأميركية منذ عام ٢٠٠٣ في حزمة تجارب التحرير الوطني تلك، على ذات النحو الذي يستحيل فيه، من دون اقتراف عسف معرفي وتاري
أصدقاء المحتلّ يرتدون ثياب المحرّرين
نشر في: 20 يناير, 2012: 07:51 م