أحمد عبد الحسينكان السياسيّ المرحوم كامل الجادرجي يحتفظ بسجلّ أسماه "الكتاب الأسود" يدوّن فيه، كلما اقتضتْ الحاجة، تشريعاً يرى فيه ظلماً، أو موقفاً مخزياً لشخصية سياسية، أو تصريحاً طائفياً لآخر، أو خبراً عن سياسيّ نهب مالاً عاماً، أخبار المسؤولين المرتشين، أنباء الساسة اللصوص، كلّ فضائح ساسة ذلك الوقت حرص الجادرجي على تدوينها بشغفٍ يوميّ.
الكتاب اليوم عند ابنه المعماريّ الشهير "رفعة الجادرجي" وأتمنى أن يعمد إلى نشره فهو يمثل وثيقة مهمة تؤرخ لتأريخ العراق الحديث.كان المرحوم الجادرجي يدرك أن "كتابه الأسود" سيكون له من الأهمية ما للصندوق الأسود في طائرة منكوبة، هو الذي يحفظ أسرار ما حدث فيها، أنا لم أر الكتاب لكني أعرف أنه من مجلد واحد فقط ـ وإن كان مجلداً كبيراً نسبياً ـ وأعرف انه لم يوفّر أحداً فيه، حتى بعض أصدقائه المقربين لهم حصة في هذا الكتاب. هناك بعض اللمحات الطريفة في الكتاب على ما نُقل لي، منها أن الجادرجي حين يصل إلى تدوين أحداث سنة 1963 فإنه يضع علامة "X" كبيرة على تلك السنة كلها فهي عبارة عن سنة سوداء ومسخمّة من أولها إلى آخرها، ما دامتْ قد افتتحت بالثامن من شباط .كنت أناقش زملائي اليوم عن ضرورة البدء بتدوين كتاب كهذا فيه وقائع الفساد والاحتيال والبلطجة السياسية ومصادرة الحريات والتضييق على الإعلام ولبس القانون كما يلبس الحذاء والسرقات والسمسرة وإيواء الإرهابيين والقتلة والركوع والسجود للدول البعيدة والقريبة، باختصار لكل الوقائع المخزية التي قام بها سياسيونا منذ 2003 وإلى اليوم، وأن نسمي الكتاب "سود وقائعنا" تيمناً بجملة الشاعر صفيّ الدين الحليّ في بيته الشهير الذي استمدّ منه علَمُنا ألوانه.استحسن البعض الفكرة وصاروا يوردون شواهد: لنجعل صفحة للسياسيّ الذي اقترح الفصل بين الجنسين في الجامعات، أخرى لإعلاميّ وبرلماني وشاعر "ثلاثة في واحد كماركات الشامبو الفاخرة" الذي عُيّن مسؤولاً عن قمع تظاهرات شبان العراق الشجعان في ساحة التحرير، صفحة كبيرة للانتهازيّ الإعلاميّ الكبير الذي ما زال ينعم بفلوس تسلمها من القذافيّ، الذي ينطنط كالمهرج في مشروعه المبتكر عن الإسلام والديمقراطية والذي درّ عليه مالاً أوفر مما درته عليه سرقاته من المؤسسات الإعلامية التي عمل فيها بعد التغيير، صفحات سوداء لسياسيين مكفهرّي الوجوه أمام الكاميرات يقودون الناس إلى حرب أهلية، لكنهم يتعاونون في ما بينهم على السحت والفساد.بعد أن تعب زملائي من إيراد الأمثلة، انبرى أصغرنا سناً "ويبدو انه أكثرنا فطنة" فقال: عندي اقتراح، ما رأيكم أن نجعل الـ"X" الذي كتبه الجادرجي في 1963 مستمراً إلى الآن، فالعراق منذ تلك السنة لم يرَ خيراً؟ أقترح أن نسمي الكتاب كتاب "X" وأن نبقيه فارغاً لأن كل الوقائع فيه سوداء و"مصخّمة".ثم استدرك: طيب لم لا تنظرون إلى الجانب المشرق، لم لا نبدأ بالعمل على كتاب ندوّن فيه مواقف مشرفة للسياسيين العراقيين، ونسميه الكتاب الأبيض؟ لكنه أضاف بنبرة أسى: سيكون اسماً على مسمى، سيظلّ الكتاب أبيض فارغاً.وافترقنا وفي مخيّلة كلّ منا كتابان: أسود وأبيض، وكلاهما فارغ سوى من علامة "X"!
قرطاس: X

نشر في: 22 يناير, 2012: 07:42 م