لندن / عدنان حسين أحمدكثيرة هي الموضوعات التي تعالجها مسرحية (عندما تهوي الملائكة) للمخرجة المسرحية روناك شوقي التي أعدّتها عن رواية أنطون تشيخوف القصيرة (العنبر رقم 6) ونجحت في تقديم خطاب بصري ينطوي على اشتراطات العمل المسرحي التقليدي من جهة،
ويحاول أن يقدِّم في الوقت ذاته بعض المَشاهِد البَصَرية التي غيّرت من إيقاع النص التقليدي المُتعارَف عليه من جهة أخرى. لاشك في أن المُعِّدة والمخرجة قد حافظت على سياق البنية الروائية، لكنها ضربت ضربتها الفنية حينما لوّت عنق في نهايته،وبدلاً من أن تموت الدكتورة (أدت الدور ببراعة الفنانة هند الرمّاح) على يد الممرضة والمسؤولة عن (العنبر رقم 6) عشتار المفرجي، ظلت حيّة ترزق بعد أن زُجّت في داخل العنبر بوصفها (مجنونة)، لأنها ذهبت في علاقتها أبعد من الحدود المسموحة بها مع آنا ديمتروفا، المرأة الذكية والمثقفة والنبيلة الأصل التي كانت تعمل كاتبة في المحكمة، وسكرتيرة في المحافظة، لكنها أُصيبت بجنون الاضطهاد، وأصبحت مضطربة ومنفعلة وتهذي على الدوام فزُجّ بها إلى السجن بتهمة الجنون. لقد أرادت روناك شوقي أن تثري نصها المسرحي بالعديد من الأفكار والقضايا الإشكالية الرئيسة التي تصمد أمام تقادم السنوات، فلا غرابة أن تتناول فكرة الموت التي شغلت الدكتورة، تمثيلاً لا حصراً، فقد أحسّت هذه الدكتورة في وقت من الأوقات بهيمنة الجانب العدمي الذي يتسيّد في الظروف الاستثنائية المتردية التي تبرز فيها معظم سوْءات السلطة والمجتمع في آنٍ واحد كالفساد، والسرقة، والتزوير، والمطاردة، والقمع، والتعذيب، وانهيار القيم الاجتماعية والأخلاقية والروحية وما إلى ذلك. وعلى الرغم من إحساس الدكتورة بالعبث واللاجدوى من كل شيء، بما في ذلك مهنة الطب التي تزاولها طالما أن الموت يتربّص بنا جميعاً، مرضى أو أصحّاء على حدٍ سواء، إلا آنا ديمتروفا، المرأة الحكيمة لم تشعر باليأس أبداً، وما تزال تنتظر اليوم الذي (ستفْرغ فيه السجون والمعتقلات) من النزلاء والمرضى النفسيين، وكذلك المجانين الذين أُلصقت بهم تهمة الجنون زوراً وبهتاناً. وربما تذهب (آنا) أبعد من ذلك حينما تفكر بالخلود، على الرغم من أنَّ الخلود فكرة حُلُمية مجرّدة، وأن طرْحَها أو الإيمان بها لا يغيّر من قوانين الطبيعة كثيراً بحسب الرأي العلمي للدكتورة لأن الناس سوف يمرضون ويشيخون ويموتون مهما كانت روعة الفجر المستقبلي المضيء الذي تترقبه (آنا)، وتتطلّع إليه كحقيقة دامغة. فالرأي العلمي الرصين يقول بأن الموت والرحيل إلى العالم الأبدي هو المصير النهائي لأي كائنٍ بشري على وجه البسيطة. كما أن التفكير بالخلود أو اختراعه من قبل المخيلة البشرية لا يجدي نفعاً على الإطلاق. وكما قال كعب بن زهير: ( كل ابن أنثى وإن طالت سلامته / يوماً على آلة حدباء محمول). والأمّر من ذلك أن هذه القاعدة المرعبة لم تتغيّر منذ ملايين السنين. إذن، لابد من أن نذهب في مغامرة الحياة إلى أقصاها وأن نلجأ إلى الوهم الجميل للتخفيف من وطأة النهاية المفجعة لنا جميعاً والقبول بها كقَدَرٍ أعمى لا قدرة لنا على تفسيره. المُلاحَظ أن كلتا الشخصيتين، الدكتورة وآنا ديمتروفا (أدّت الدور الفنانة سلوى الجرّاح)، مصابتان بالوحدة، وتشعران بالعزلة القسرية، وعدم القدرة على الاندماج مع الآخر، حتى لو كان هذا الآخر من الجِبلِّة ذاتها. فكلاهما مثقفة وتحب القراءة، وتجد عزاءها الوحيد فيها، بل أن الدكتورة نفسها كانت تطمح الى أن تكون كاتبة غير أن والدها أرغمها على دراسة الطب. وعلى الرغم من المنزلتين العلمية والاجتماعية التي تتوفر عليها الدكتورة و(آنا) المرأة الحكيمة التي تعرف ماذا يدور في خارج العنبر، إلا أنهما أصحبتا ضحية لهذا المجتمع المنهار الذي تعرّض إلى هزّة سياسية قلبت الحياة رأساً على عقب. من هنا نستطيع أن نبرّر الانهيار العصبي الذي تعرّضت (آنا)، والهستيريا التي أصابت الدكتورة، وهي ذات الهستيريا التي أصابت الأستاذة الجامعية (فيحاء السامرائي)، الشخصية الثالثة التي تعرضت لقمع متواصل أودى بها في نهاية المطاف إلى السجن في عنبر الأمراض العقلية والنفسية. يبدو من خلال سياق هذا النص المسرحي أن المثقفين مستهدفون دائماً، ولذلك فقد احتوتهم عنابر المرضى والمجانين والمصابين بالأمراض النفسية وحددت مسار حركتهم في الأقبية المظلمة والعفنة كما هو الحال في (العنبر رقم 6)، هذا المكان الذي يضم أيضاً أناساً آخرين قادتهم ظروف الحياة المعقدة إلى هذا المنعزل الذين يحوي بين جدرانه أناساً محاصرين سُلبِت حريتهم الشخصية وحددت بمساحة ضيقة لا تكفي لتحريك الدماء الحارة في شرايينهم وأوردتهم. لم تشأ المخرجة المبدعة روناك شوقي إلاّ أن تمنح هؤلاء الضحايا فرصة ثمينة للتعبير عن تشبثهم ببصيص من الأمل، وهذا ما يفسّر لنا أهمية المشاهِد البصرية التي احتفى بها العرض المسرحي سواء في بداية العرض أو نهايته، وكذلك في بعض المشاهد التعبيرية التي توسلّت بها المخرجة لإيصال بعض الرسائل الإيمائية التي وصلت إلى الجمهور بشكل واضح وصريح على الرغم مما تنطوي عليه من لغة أيقونية توحي بالتوسل تارة، وبسقوط الملائكة من شاهق السماء. لقد اقتص
(ملائكة) روناك شوقي والمصائر التراجيدية المؤسية للشريحة المثقفة
نشر في: 24 يناير, 2012: 07:10 م