نجم واليعندما اتصل الملك الاسباني خوان كارلوس قبل أيام بصاحب النوبل الروائي البيروفي ماريو بيرغاس يوسا لم يظن أن طلبه سيُرد. ربما فاجأ جواب صاحب "حديث في الكاتدرائية" الملك الاسباني، لكنه كان متوقعاً بالنسبة لمن عرفوا يوسا شخصياً أو تابعوا سيرته الأدبية منذ روايته الأولى "المدينة والكلاب" وحتى روايته الأخيرة "السَلتي".
يوسا الذي جرب مرة واحدة أن يكون رئيساً لبلاده وفشل في الانتخابات عرف أن يترأس مؤسسة سيرفانتيس الاسبانية كما طلب منه الملك باسم الحكومة يعني بالنسبة له التفرغ التام. الكتابة بمسؤولية سواء في ما خص الكتابة الروائية أو كتابة المقالات هي مسؤولية ترأس منصب عليه في حالة تسلمه التفرغ له تماماً. معسكر اليمين الذي رشح باسمه يوسا للرئاسة في التسعينات لم يتردد بعد ذلك بأن يُرجع خسارته في الانتخابات أمام الشعبوي فوجيموري ليس إلى فشله باستقطاب أصوات المنتخبين بل إلى شخصية الأديب يوسا. قيل في حينه: إنه كاتب. الكاتب يختلف عن السياسي. ربما كان التعليق ذلك صحيحاً أو ربما لا، المهم في هذا السياق هو أن يوسا الذي تحدث عن تلك التجربة في كتابه (سمكة في الماء) عرف أن التجربة تلك تركته في النهاية جلداً على عظم كما وصف نفسه آنذاك وأن الحل الوحيد لكي يستعيد عافيته وصحته هو العودة إلى عالمه. السمكة لا تعيش من دون الماء. وماريو بيرغاس يوسا لا يعيش من دون الأدب. ذلك ما جعله يقول أيضاً إنه لم يعرف بعد ذلك سوى الكتب. ولكي يؤكد إنه ما يزال الروائي الساحر ذلك الذي سحرتنا رواياته "المدينة والكلاب"، "حديث في الكتدرائية"، "البيت الأخضر"، "الصحفي والخالة جوليا"، "الحرب في نهاية العالم"... وغيرها، كتب روايته "الحكواتي" (أو "راوي القصص"). رواية أثبتت أن يوسا الذي أراد أن يصبح سياسياً محترفاً والذي لم يكن بغير سبب استغل الفرص التي أتاحتها له من حين إلى آخر حملته الانتخابية، لكي يقرأ الشاعر الاسباني غونغورا (كأنه أراد الدفاع عن نفسه أو كأنه عرف أنه سيفشل في السياسة وهيأ نفسه للعودة إلى مائه!)، يصلح لأمر واحد: أن يروي. صديقه اللدود الذي كتب ماريو بيرغاس يوسا عن روايته التي صنعت مجده أطروحة دكتوراه نال عنها لقب الدكتور (لقب لم يلحقه باسمه أبداً كما يفعل دكاترة سوق مريدي عندنا!) من جامعة برشلونة في بداية السبعينات، لم يترك هو الآخر مناسبة إلا وأكد فيها، إنه عاش ليروي. غابريل غارسيا ماركيز عاش ليروي، وإلا لما كتب ملحمة دخلت تاريخ الأدب الإنساني، "مائة عام من العزلة"، موضوع أطروحة يوسا. وبيرغاس يوسا لا يترك مناسبة إلا وأكد فيها: إنه سمكة لا تعيش إلا في بحر الأدب. بحر الخيال. ليست "الحكواتي" وحدها التي أثبتت ذلك. رواياته اللاحقة أيضاً: "عرس التيس"، "الفتاة الشيطانة"، "السَلتي". أما مقالاته المنشورة كل أسبوعين على صفحة الباييس فهي أفكار جوالة وتكملة لعمله الروائي. التخيل ذلك هو البحر الذي يغمره في مياهه. حتى إذا جعله يصعد على المسرح ويمثل شخصية الملك شهريار بمسرحية أعدها هو عن ألف ليلة وليلة وأخرجتها ابنته التي مثلت فيها أيضاً شخصية شهرزاد (سأعود إلى هذا الموضوع في مقال لاحق). شخص عرف ذات مرة أنه سيصبح جلداً على عظم لن يكرر التجربة مرة أخرى خاصة وأنه تجاوز أعتاب الخمسة والسبعين من عمره. ليس من الغريب أن يأتي جوابه على طلب الملك بالنفي. ولأنه شخص دمث، ومتواضع (هكذا عرفته شخصياً) طلب من الملك أن يمنحه أولاً بعض الوقت لكي يرد. رغم أن الحادثة تبين تواضع الملك الاسباني أيضاً. لنتخيل أن ملكاً أو رئيساً عربياً أراد أن يطلب تكليف أحد بمنصب ما؟ لا حاجة للإجابة على السؤال. كيف سيحدث ذلك، وعندنا حتى الجوائز التي تُمنح باسم هذا الملك أو ذلك الأمير لا تُمنح إلا بعد توقيع المرشحين على ورقة "إهانة" مسبقة بالموافقة. ليس هناك أمام أحد المواربة. إدعاء العكس نفاق. ومَن رفض جائزة مهمة رفضها بعد موافقته وبعد تسلمه الشيك الخاص بها! حتى اليوم لم نسمع عندنا برفض "أديب" لجائزة أو لمنصب ولا يهم ما سيجلبه له ذلك من عار.المصري جابر عصفور مثلاً لم يكتفِ بتسلم جائزة معمر القذافي من يدي الديكتاتور (والمعتوه) الملطختين بالدم بل أصبح أيضاً وزيراً سابقاً بعد أسبوع من تكليف حسني مبارك له بالمنصب ذلك!لكننا نتحدث عن الأدب وعن الأدباء. من يريد أن يصبح أديباً ويأخذ عمله بمسؤولية لن يهمه البحث عن منصب أو جاه. ماريو بيرغاس يوسا فضل غواية كرسي الرواية على غواية كرسي السلطة. تلك هي الرسالة التي بعثها بها لنا صاحب النوبل. ذلك هو الدرس الذي علمنا إياه.
منطقة محررة: بين غواية كرسي السلطة وكرسي الرواية

نشر في: 24 يناير, 2012: 07:11 م