د.لقاء موسى فنجان يشهد العراق الآن انبثاقاً للمنظمات النسائية غير الحكومية. وبتشجيع من العقد الذي خصصته الأمم المتحدة للمرأة انطلقت موجة من الأنشطة الجديدة انتظمت حول حاجات النساء. لكن هذه الأنشطة ارتبطت مرة أخرى بالمؤسسات الحكومية، لا سيما وزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة المرأة التي تشكلت بعد أحداث 2003 وتتبنى دائماً آراء تقليدية ومحافظة إلى أبعد الحدود في ما يتصل بحاجات ومتطلبات المرأة. أما الجماعات النسائية التي تتحدى التنظيم الذكوري الأبوي للمجتمع فتتعرض للمضايقة والتشكيك في مصداقيتها في بعض الأحيان.
وعند محاولة فهم طبيعة التهديد الذي يمثله قيام النساء بتنظيم أنفسهن داخل جماعات، وردّة الفعل التي يستثيرها في المجتمع، يجب أن نتساءل عما إذا كان من الضروري تقصي ظاهرة أخرى أكثر تعقيداً تكمن في صميم طبيعة المجتمع المدني والمجتمع المحلي المعتمد على الذات. ففي العراق لا يعد المجتمع المدني مبدأ ناظماً أساسياً لإدارة الجماعات أو التحكم بها. فالعائلة والجماعات القرابية وأخيراً القبيلة هي الوحدات التنظيمية الأساسية، في حين يعد سواها من التنظيمات التي تخترق المجتمع أفقياً هدامة وخطيرة في أغلب الأحوال. إن صوت الفرد لا أهمية له في القبيلة أو الجماعة القرابية، لكنه يتمتع بأهمية حاسمة في المجتمع المدني القائم على الجماعات ذات المصالح المشتركة والجماعات المنظمة، بغض النظر عما إذا كانت رجالية أو نسائية إذ تعد على القدر نفسه من التهديد والخطورة بالنسبة لدول العالم العربي التي تسيطر على معظمها أنظمة حكم متخلفة، حيث يعد رئيس الدولة الزعيم الأعلى للقبيلة، أو رب الأسرة الوطنية الكبرى. لهذا تجري مراقبة الجماعات المنظمة، والتحكم بها بكل عناية ودقة. ولا يسمح للرجال إلا بإقامة النوادي الرياضية، وبعض الجمعيات الثقافية في حين تقيد أنشطة النساء عموماً في إطار المنظمات الخيرية لمساعدة المعوقين والعاجزين، أو المرضى العقليين. وبالتالي فان المجتمع لا يأبه للإجماع المدني، ولا يبالي بصوت الفرد، ويعد الجمعيات التي تخترق الجماعات القرابية والقبلية مصدراً للتهديد والخطر. وفي مثل هذا المجتمع لا بد من أن تعد النساء اللاتي ينتظمن في جماعات بمثابة تهديد دائم للمؤسسات القائمة. إن العراق منطقة متغايرة الخواص والعناصر إلى حد بعيد. وحياة النساء اللاتي يعشن فيه تتباين تبايناً جذرياً في ما يتعلق بالوصول إلى الموارد الاقتصادية والسياسية، وبالكيفية التي ينظرن فيها إلى أنفسهن وينظر إليهن الآخرون. في مثل هذا التنوع الحاشد، هناك موضوع وحيد يبدو انه يتمتع بالثبات والاستمرارية والاطراد. إذ يوقع المرأة- حين الوصول إلى درجة تفوق الرجل- في شراك القيود والالتزامات التي تفرضها صلات القربى. وبرغم إن الرجل هو الرمز الحي للروابط القرابية الأبوية فان مسؤولية التعبير عن هذه الروابط والعواطف تقع على المرأة. وبالنسبة لمعظم نساء العراق في السنوات القليلة الماضية أصبح موضوع المجتمع المدني مرة أخرى أحد العناوين الرئيسية التي تحظى بأهمية كبرى لدى الباحثين والسياسيين. والحق أنه يجب علينا الانتباه إلى حالات التعاون المتبادل بين الدولة والمجتمع المدني. كما يجب التأكيد على أن (مزيداً) من المجتمع المدني لا يؤدي بشكل آلي إلى مزيد من الديمقراطية والتنمية. إن تشكيل بعض الجماعات النسائية، رسمية كانت أو غير رسمية، سوف يوفر فرص الاستخدام للمتعلمات والمحظوظات من النساء. وفي السياقات الأخرى سوف يخلق المجتمع المدني على نحو يتزايد باضطراد الفرص للنساء الأكثر فقراً للتعبير عن أنفسهن وإقامة التنظيمات التي ترعى مصالحهن المتبادلة. لكن هذا التوكيد الجديد على المجتمع المدني يتضمن مخاطر كبيرة، تتمثل في استمرار حرمان نساء العراق من حقوقهن، إذ طالما ظلت المرأة تعتبر استثناء في المعايير الذكورية، ولسوف تبقى تعرف على أنها (مختلفة). ولسوف يستمر اصطفاء النساء، كهدف للجهود التنموية المحددة المتجهة نحو حاجاتهن الخاصة. ومن وجهة النظر هذه فإن بذل مزيد من الجهود لتنظيم النساء يزيد من اعتمادهن على مراكز القوى، وطنية كانت أو دولية، مدنية أو حكومية. مع ذلك، فإن فهم القضايا والقيود التي تواجه النساء في العالم عند تشكيل الجماعات الرسمية أو غير الرسمية، ليس سوى خطوة صغيرة باتجاه مساعدتهن على التحكم بحياتهن وتسيير شؤونهن ذاتياً.
الثقافة المضادّة فـي المجتمع المدني
نشر في: 24 يناير, 2012: 07:14 م