مشرق عباس وضع الكتّاب والسياسيون تصريحات المسؤول الاستخباري الإيراني قاسم سليماني الأخيرة حول العراق والتي نفتها السفارة الإيرانية أخيرا على طاولة التأويل السياسي من زاويتين متقاربتين الأولى تذهب إلى الاعتراف الكامل بمضمون ماطرحه سليماني باعتباره "مفروغا من واقعيته" والثانية غيرت بوصلة الإدانة باتجاه الطبقة السياسية العراقية الحاكمة باعتبارها المسؤولة عن هذا الواقع "المفروغ منه" أيضا.
وأمام موجة الازدراء والاتهام هذه التي جاءت من باب المصادفة بعد أيام من موجة أخرى معاكسة أثارتها تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان استثمرت كمناسبة لاتهام طيف سياسي تربطه علاقات وثيقة بتركيا بـ "الخيانة" أو "بيع الذمم لاسطنبول أو الرياض" تنكشف صورة مغايرة عن الأثمان الباهظة التي دفعها العراقيون في الصيرورة التاريخية العصيبة التي زامنت تحول بلدهم من "لاعب" إقليمي إلى "ملعب" في غضون سنوات. وواقع الحال إن الحدثين وردود الفعل حولهما حتى على مستوى الرؤية السياسية يعكسان صورة "مفزعة" لكنها شديدة الوضوح ليس بشأن طموحات دول الإقليم في فرض النفوذ والتي تبدو في جوهرها طموحات طبيعية مقترنة بجوهر السياسة , وإنما الاستسلام إلى تلك الطموحات باعتبارها أداة في صراع كسر عظم داخلي تنتمي في كثير من معطياتها إلى عصبية مذهبية طفلية الطابع.تلك القناعة التي تترسخ بـ "كلية القدرة" التي تمتلكها إيران أو تركيا هي في الحقيقة امتداد لثقافة قدرية مازالت تتنكر للمنهج التجريبي الذي كان قد أثبت أن الحكم الديكتاتوري ليس "قدراً" بالضرورة، وأن أميركا في المقابل ليست "حلماً ديموقراطياً" بالضرورة.وزير الخارجية التركي احمد داود أوغلو الذي أعاد صوغ نظرية "المحيط الاستراتيجي" العسكرية الألمانية في كتاب "العمق الاستراتيجي" حدد معابر فهم السياسة التركية الجديدة عبر مفهوم التوازن بين "قوة الأمر الواقع" و"قوة الحق الأصيل" فحذر من "المغامرة بمواجهة قوة الأمر الواقع دون استعداد كاف، أو التفريط في قوة الحق الثابت الأصيل".رجل تركيا الجديدة ومنظّرها العميق كان حريصاً خلال عرض سياسة بلاده على تأكيد حقيقتين أصبحتا أكثر وضوحاً في سياق التجارب التي أعقبت صدور ذلك الكتاب، فتركيا التي اعتبرها اوغلو تمتلك "إمكانات أكثر من مكانتها" تنظر إلى الإرث العثماني الثقافي باعتباره "حقا أصيلا" فيما تعتبر موقعها الاستراتيجي في صميم المنظومتين الأووربية - العلمانية والشرق أوسطية - الإسلامية نتاج "أمر واقع"، وان الموازنة بين تلك الرؤيتين اللتين يراهما "متحركتين" أكثر من كونهما "متفاعلتين" تمثل جوهر علاقات تركيا الدولية.وعلى رغم ان تلك الرؤية لاقت نوعين من ردود الفعل في المنطقة العربية والعراق احدهما انغمس بشكل مبالغ فيه في "تمجيد" تركيا الجديدة الخارجة من رداء العلمانية إلى تمثيل الإسلام المعتدل، وثانيهما بالغ في "الخوف" من طموحات تركيا العثمانية، فإن السياسة التركية التي اعتمدت مبدأ فتح المنافذ شرقاً وغرباً والحفاظ على الدبلوماسية الناعمة في العلاقات الإقليمية كترجمة دلالية لمبدأ "قوة الأمر الواقع" نفسها، كانت قد كشفت في ذات الوقت عن نمط سلوك أكثر حدة في التعاطي مع سلسلة من الأزمات مع فرنسا والاتحاد الأوروبي خصوصاً مايتعلق بقضية مجازر الأرمن، واستعراض مبهر لصراع الديوك الإقليمي مع إسرائيل في أزمة سفينة "مرمرة" ودعم صريح لحركة التظاهرات الشعبية في دول الربيع العربي.أوغلو أراد أن يقول لمن يطلب فهم تركيا الحديثة بأنها "زهرة إقليمية بأشواك قاتلة" وهناك من اعترض على هذه الصورة بالإشارة إلى مشاكل داخلية اجتماعية وسياسية ودينية ومذهبية وفكرية عميقة على تركيا حلها قبل أن تطرح نفسها كـ "زهرة شرق أوسطية" , كما أن هناك من داخل تركيا نفسها وخصوصاً من الأوفياء لصورة تركيا "الأتاتوركية" من شبّه بلاده بسفينة عتاد تسبح في حقل ألغام. من ذلك المقطع الأخير يمكن تفسير الخطاب التركي تجاه العراق بتطوراته المختلفة، ويمكن التمسك باستثمار "تركيا الأمر الواقع" لا التخلي عنها عبر إجبارها على استنهاض مفهوم "الحق الأصيل" الذي يحصره أوغلو في مفردات لاتحمل مضامين عقائدية أو عسكرية أو توسعية بقدر ما اعتبره استعادة بلاده خاصية "التحسس الجيوسياسي في البلقان، والشرق الأوسط، والقوقاز براً، والبحر الأسود، وشرق المتوسط، والخليج، وبحر قزوين بحراً " ومن خلال ذلك الفهم أيضا يمكن القول إن تصريحات أردوغان حول العراق لاتمثل في جوهرها الإستراتيجية التركية المعلنة والمطبقة واقعياً، بل إن قراءة تلك التصريحات تستدرج التأويل عن تركيا "القلقة" أكثر من تركيا "المقلقة" بالاستناد إلى تحديد أوغلو جوهر القوة التركية الجديدة عبر مفهوم "الاستقرار" واستلهام حقائق الجغرافيا والتاريخ والاسلام والعلمانية والتنوع الثقافي باعتبارها مفردات لتدعيم الاستقرار المرتبط
مالم يقله سليماني... قاله أوغلو
نشر في: 25 يناير, 2012: 07:10 م