فخري كريم
تصاعدت الملاسنة السياسية بين اردوغان والمالكي خلال الفترة الماضية. وكان ممكناً اعتبار ما قيل من قبل رئيس وزراء الجارة تركيا، ضرباً من "التداخل الصداقي"، بفعل "الميانة " التي شجعه عليها العديد من القادة العراقيين،
خلال سنوات المرحلة الانتقالية التي لم تنته بعد ، حيث كان البعض يتزايد على البعض الآخر في طلب "التدخل" بين الفرقاء "لتليين المواقف" والحض على المشاركة في العملية السياسية، او لضبط بعض السياسات والانفعالات التي تنتاب قادة وفصائل.
(الميانة) في العلاقات السياسية ، خصوصاً بين الدول التي تتعامل مع بعضها من مستويات مختلفة ، تشجع على " التجاوز " ، وهو ما قد يتخذ اذا لم يتم ضبط ايقاعها واعادتها الى اطارها الطبيعي في الوقت المناسب ، طابع تدخلٍ سافرٍ في الشؤون الداخلية .
وقد تمادت بعض الأطراف والقيادات العراقية خلال السنوات الماضية في هذه " الميانة المخلة " مع كثيرين وتعدّت خطوط التهاون في طلب " النصح " وتبادل الرأي والمشورة ، الى الرضا عن التدخل بالتفاصيل و" فرض " خارطة طريق تتجاوز بخطوطها وتضاريسها أدق القضايا الوطنية والعلاقات بين القوى وشؤون الحكم وما الى ذلك مما يمس الكرامة الوطنية .
ويتضح من سير الأحداث وإدارة العلاقات ، ان بعض القوى لم تشب عن الطوق بعد ، ولم تهجر مراهقتها السياسية التي لم تكن بمعزلٍ عن انتقالها من مرحلة المعارضة التي طال أمدها (خارج البلاد) الى دست الحكم . ومعروف الطابع غير المتوازن للعلاقات التي أقيمت آنذاك مع بعض القوى والمراكز الخارجية، والعادات التي تكرست في أطرها، والتي اتخذت احياناً، بفعل الحصار المفروض على المعارضة، والحاجة وضرورات التواجد في الساحة السياسية، طابع تبعيةٍ محرجة أو اضطرار على (مجاملات)، او هكذا كانت تبدو للمراقب من داخل مشهد المعارضة وعلى متونها .
وبعيداً عن توصيف "حالتنا الرثة" وما تحتاجه من جهدٍ لنفضها وتخليصها من تلك الأدران التي هي ليست حكرا على بعض معارضتنا السابقة وانما على اغلب معارضات الدكتاتوريات سواء في منطقتنا أم في مناطق اخرى من العالم.بعيداً عن هذا، فان ما أدلى به اردوغان، لم يعد يدخل حتى في باب " الميانة " التي تدرّج في اعتمادها في علاقاته مع العراق وبعض قياداته ، بل اتخذ طابع تدخلٍ غير منضبط ، ووصايةٍ متماديةٍ وانحيازٍ فض ليس مسموحاً به، بل يُفترض بالسيد اردوغان ان يراجع مستشاريه بشأنه،أو هكذا كان ينبغي عليه،قبل أن يتعود على "الندّية والتكافؤ" المطلوبين في العلاقات بين الدول بإطارها السليم. ان جهداً استرجاعياً عميقاً كان يحتاجه اردوغان ، ليزيح به عن وعيه ما علق به من اوهامٍ حول افتراض العودة الى عهد "السلطنة العثمانية"، ويَعبُر الشعور الطاغي الذي تراكم لديه، بفعل نجاحاته المتتالية في بلاده، والتطريب الذي قوبل به في العالم العربي والاسلامي ، كرجل دولة يجمع بين "الانتماء الاسلامي " في شخصه ، والنزعة المدنية في إدارة الدولة، مما أوحى الى العالم الملتاع بالتغيرات العاصفة الجارية في البلدان العربية، بتوصيف نهجه في الحكم والجمع بين " الاسلامية والمدنية " كطريقٍ ثالثٍ يصلح للاقتداء، خصوصاً في ظروف صعود الحركات الاسلامية والإخوان المسلمين الى السلطة السياسية في العديد من الدول العربية .
ومن الغريب ان يتفاجأ البعض بالصيغة المباشرة والطبيعة المكشوفة لتدخل اردوغان والتهديد الضمني الذي انطوى عليه خطابه، كما لو انه "وصيٌ على العراق" و"حاضنٌ" مخولٌ لمكونٍ من الطيف العراقي الوطني.
لا غرابة في ذلك.. فتركيا لم تنقطع منذ سقوط النظام الدكتاتوري عن نهجها هذا في التدخل الذي اتخذ احياناً كثيرة طابع تحريضٍ سياسي علني، من قبل طاقم السفارة التركية، خصوصاً اثناء الانتخابات التشريعية او في المنعطفات السياسية التي ينشغل فيها السفير ومعاونوه في تكثيف الزيارات و الاتصالات مع بعض القادة وفي أروقة البرلمان للتأثير، سلبا، في سير التفاهمات الوطنية، دون مراعاة الأعراف الدبلوماسية وما تقتضيها من استئذانٍ وموافقاتٍ أصولية ، مما دعا وزارة الخارجية احياناً الى الفات نظر السفارة ودعوتها للالتزام بما متعارف عليه.
واخذاً بالاعتبار ان "نهج الميانة" في العلاقات بين كثرة من الدول والزعامات، فان من الواجب على الحكومة والأطراف السياسية المتورطة بهذا النهج مع هذه الدولة او تلك ، ان تدخل في مرحلة "فطامٍ سياسي "تهجر خلالها" مراهقتها والعادات التي اكتسبتها في سنوات المعارضة العجاف، وتَعي ذاتها التي انتقلت الى حكم البلاد وتؤكد حضورها كوصيةٍ وحيدة على بلادها ، وتشيع من حولها الحساسية الوطنية التي ترفض المس بالكرامة الوطنية ، اياً كانت الجهة التي قد تتطاول او طبيعة المداخلة المخلة .
لقد مررنا بظروف كان فيها الكثيرون يتبارون من أجل التنافس من هو الأكثر حظوةً لدى هذا الطرف الإقليمي أو ذاك.. وتجاوز البعض حدود طلب النصيحة والمعاونة في جمع الفرقاء العراقيين الى ما من شأنه طلب الضغوط وبالتالي الاستقواء بأطراف إقليمية ضد زملائهم وابناء جلدتهم..وكان الأكثر وضوحا في مثل هذه الضغوط هو تلويح قوى محلية الى أن العلاقة مع هذه الدولة او تلك لن تتحسن الا من خلال المرور تحت قناة هذه القوة السياسية وليس سواها..ناهيك عن الفواتير المالية المدفوعة عن فضائيات وأموال انتخابية وحتى تنظيم لمؤتمرات عراقية برعاية خارجيات ومخابرات دول مجاورة من بينها تركيا..وسوى هذا من (الدعم الأريحي) مما يجعل كثيرا من القوى المحلية ملزمة ليس بـ (المجاملة) حسب وإنما أيضا بقبول الإملاءات وتنفيذ السياسات. وحتى تتعافى تلك القيادات من لوثاتها السياسية، وتتوقف أطراف حكومية عن تخبطاتها في تكريس مرجعيات عديدة في العلاقات الدولية ، ويضع البرلمان وقادة الكتل ، حداً للسلوك المنافي لحدود المسؤوليات في العلاقات مع الدول والحكومات ، لابد من اتباع نهج واضحٍ يتسمُ بالحكمة وبعد النظر في التعامل الدولي يتدرج في إشعار المسؤولين فيها ، باننا " رجال دولة " وحكام منتخبون لدولةٍ عريقة وغنية بشعبها وثروتها ، وتمتلك من رصيد التجربة التاريخية ما يؤهلها لأن تكرّس حضوراً مؤثراً لها في كل محفلٍ ومناسبة . اكاد أتحسس حراجة اردوغان وهو يتابع ردود الأفعال الحكومية على مواقفه المتدخلة في الشأن العراقي ، اذ هي المرة الاولى التي يواجه بمثل هذه الحدية ، وقد يردد مع نفسه باستغراب " ما الذي استجد في الوضع العراقي ، وما الذي أبديته من مواقف لتثير هذه الحساسية العراقية المفاجئة، إنها تكاد تكون اقل مما كنت اتحدث به سابقاً " !
ان التداخلات وتعدد مراكز التعبير عن السياسة الخارجية التي سارت عليها الحكومة وتجاوزت من خلالها احيانا مرجعية وزارة الخارجية ، لعبت دورا سلبياً في إيهام البعض بـ" رخاوة " الدولة العراقية وتراخي مؤسساتها السيادية ، مما يسمح لها بحرية الحركة خارج اطار اي رقابة ، وهو ما يمكن اعتباره إعاقة جديّة لاستعادة هيبة الدولة وحضورها الخارجي .
وبقي أن نشير الى السيد اردوغان ، فنقول: لقد أكد العراق في مناسبات عديدة ، على رغبته العميقة في اقامة امتن العلاقات مع تركيا الجارة ، لكن هذه الرغبة تبدو الآن بحاجة الى تفهمكم وادراككم بان الدولة العراقية في طريقها لاستكمال بنيتها المستقلة ، وان رجالاتها ، سواء من كان منهم في حاضنة الحكومة أم خارجها هم قادة الدولة ، ولم يعودوا أنفاراً مشتتين في أصقاع العالم ، يتوددون لحكام وملوك هذه الدولة أو تلك . وإذ لم تتحسس، سيد اردوغان او سواك من قادة الدول، " فطاما " عند هذا السياسي او ذاك ، فعليكم ألا تأخذوا الجميع بجريرة هذا الذي لا يزال رضيعا متطفلا على (الخارج) ، نأمل، ياسيد اردوغان، التمييز بين من غلبت العادة عنده على الطبع ، ومن يتعالى على ذاته ، اذا تعلق الامر بكرامة وطنه وشعبه ، او استطاع الانسلاخ عن عادات ماضٍ تغلبت فيه الضرورات على المحذورات .
نصيحة لوجه الله أيها السيد اردوغان ، لا تنصت لمن يوحي لك بأن زمن السلطنة آتٍ لا ريب فيه ، وان العراق او جزءاً فيه قد يلتحق بها . كما ان من المهم إدراك ان العراقيين في نهاية المطاف اياً كان انتماؤهم شديدو الحساسية ، ويصعب تطويعهم ، ناهيك عن وهم تركيعهم..
وفي كل الأحوال نرى أن تركيا الآن، وفي هذا الوضع غير المتوازن مع العراق وكثير من دول منطقتنا العربية، هي في أفضل ظروفها لتأسيس علاقات مع بلدنا وسواه من دول المنطقة تترفع على المكاسب غير المحترمة في تاريخ العلاقات بين الشعوب والدول خصوصا المتجاورة، وتكون محط احترام المستقبل الذي سينتقل العراق اليه، آجلا أم عاجلا، وقد تحرر من كل أعراض هذه الحاضر المرتبك..فالعراق، سيد اردوغان، بشعبه وامكاناته ووضعه على مختلف المستويات لا يسمح إلا أن يكون سيدا في أرضه محترما في مجاله الإقليمي والدولي..هذه هي حاجة العراق وهي حاجة المجتمع الدولي أيضا الى العراق.