شاكر لعيبي3سنلخص بكلمتين ما قلناه في الأسبوعين الماضيين: لا يوجد منظور هندسي في صورة الصحراء، لا توجد نقطة انطلاق ولا نقطة تلاشٍ. وإذا وُجدت شجرة هنا وهناك، فلن يغيّر الأمر شيئا. أما إذا حضرت هيئة بشرية فإن حضورها يُراد له أن يكون وحدة قياسيةً من الوجهة الهندسية، وعنصرا معزِّزاً للحميمية من الناحية العاطفية،
لكي يُمنح لوجود الإنسان معنى ميتافيزيقياً كما قد يُقال. لا ينفي السُلّم القياسي للجسد البشري الحاضر في مطلق الصحراء اختفاء المنظور في الصورة التي تؤطره. لا تستطيع صورة الصحراء احتواء المطلق، تستطيع فحسب الإيحاء به. ففي هذه الصورة توجد خطوط أفقية من التلال الرملية التي لا تتوجه نحو نقطة معينة، إنما نحو مراكز متعددة. إنها تكسر نظام الهندسة لصالح نظامها.إذا حيَّدْنا "لا شعورية الإدراك البصري" الضاربة عميقاً فينا، فإن التأثير البصري المجرّد هو الحاضر أولاً وأخيراً في صورة الصحراء، وهو ما سنلتقي به حتى في صور الصحراوات الكبرى ذات التعرجات والتلال والمنحدرات. صورها لا تعدو أن تكون وهماً بصرياً للمنظور الخطي، ذلك أن القريب في اللقطة الذي نراه كبيراًُ والبعيد في اللقطة الذي نحسبه ذا حجم مماثل، يشوشان إحساسنا بالمنطق الهندسي للمنظور، بل يسخران من فكرة المنظور.هذه الفكرة يمكن تطبيقها بحذافيرها على صور البحر، حتى يمكن القول أن صورة للصحراء تتشابه، حرفياً تقريباً، مع صورة للبحر. الفارق الظاهري لا قيمة له: ثمة حركة متواترة ملموسة لأمواج البحر مقارنة بالحركة البطيئة غير الملموسة لأمواج الصحراء. الحركة واقعة في الحالتين لكن في إطار برهات زمنية مختلفة لا غير، والمنظور مختف في الفضاءين كليهما. في جميع المصادر التعليمية التي تعالج نظريا وتطبيقياً المنظور الهندسي، هناك على الدوام توضيحات شتى وتطبيقات عملية على مشاهد ومناظر متنوعة تستثني، حسب معرفتي، تطبيقه على الصحراء.لقد بدت الصحراء في عيون البشر من مختلف العصور تعبيراً عن مطلق فذ وفريد، ولقد أنجبت الأنبياء والشعراء الذين تلقوا، على ما يبدو، دروساً أساسية عن الوجود فيها. النبوّة والشعرية شأنان لا علاقة للمنظور بهما.في الشعر العربي الجاهلي، لدينا الوفير من الأمثلة الساطعة لفكرة تحوّل الصحراء إلى جسدٍ ذي بعدين اثنين فحسب. إنها لا تمتلك، في معاني ذلك الشعر، عمقاً هندسياً. بُعْدان هما بالطبع الطول والعرض، وليس العمق. كان الشاعر الجاهلي متماهياً مع الصحراء بصفتها تعبيراً عن مطلق لا أبعاد له، وتعبيراً عن العالم الكبير الذي ليس العالم الصغير سوى ذرات في حضنه، ثم تعبيراً عن الاختراق والتجاوز لعالم البشر الفانين وقوانينهم الهندسية.يرسم الشاعر الجاهلي، ببعدين اثنين، رسوم الأطلال الصحراوية (أي بقايا آثار البيوت التي سكنت بها الحبيبة) على بشرة جلده، لكي يقول لنا طرفة بن العبد:لخولةَ أطلالٌ بـ"برقة ثهمد"ِ تلوْح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ بينما يقول لنا شاعر آخر:ودارٌ لها بـ"الرقمتين" كأنها مراجيعُ وشمٍ في نواشر معصمِليس من عمق منظوري بالطبع في بقايا الوشم على ظاهر اليد، بالضبط مثلما ليس هناك من عمقٍ في صورة الصحراء.
تلويحة المدى: الصحراء بوصفها فناً جميلاً
نشر في: 27 يناير, 2012: 08:18 م