TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > ( أغنيات منزليّة ).. الرؤية بعين الفنتازيا

( أغنيات منزليّة ).. الرؤية بعين الفنتازيا

نشر في: 28 يناير, 2012: 07:04 م

هاشم تايه تمتثل أعمال التشكيليّ صدّام الجميليّ، في معرضه (أغنيات منزليّة)* لإستراتيجية موحّدة تسعى إلى إنشاء فضاء مفتوح على سطح تصويريّ حرّ بوسعه أن يتخفف من هيمنة الفنان ونفوذه عليه، فيستضيف ما يشاء من مفردات بصريّة، ويمنحها حريتها في أن تتجاور، أو تتداخل مستعرضة قوى الشكل الذي تتمتع به.
وفي إطار إستراتيجيته المبنية على مصادرات جارفة لمرئيّات شتى تخضع لتقويض وبناء في برزخ الرّسم قبل أن تخرج إلى فردوسها أو جحيمها يجتهد الجميليّ في وضع العين في مواجهة تحدي أن ترى المفردة البصريّة وقد تجسّدت بطبيعتيْن هما نتاج الجمع بين التمثيل الفوتوغرافي لكيانها، وتمثيله الجماليّ في تركيبة فنتازية تدمج عالمين متنافريْن في عالم واحد، وتؤسّس فضاء حرّاً يسمح لتمثيل متنوّع المصدر بالإقامة فيه. وبهذا الإجراء ضمن الجميلي لمتلقيه التحرّر من الاندماج السلبي بعالمه الذي تتجاور فيه حقيقتان بصريتان موزعاً رؤيته بينهما.    وداخل هذا العالم الصادم بعلاقاته المستحيلة تضاء حكاية، ويجري تمثيل مفردة تشخيصيّة مركزية بعينها يتكرّر حضورها في كلّ عمل، مجسدة في صورة رجل، متوحد غالباً، في عزلة مكان- يبدو أنّه غرفة- طُمست حدوده تماماً، وأضحى معروفاً بقرائن دالة عليه هي تلك الأشياء التي تجعل الوجود الإنسانيّ ممكناً في غرفة. ويبدو أن عزلة الرجل منحت هذه الأشياء قوة وسطوة، وصار بإمكانها التحرّك في المكان، وتغيير أشكال حضورها فيه، فتنكمش وتصغر، أو تنتفخ وتتعملق، كما لو أنها قررت أن تجعل الرجل المتوحد ألعوبة بيدها، وأن تتحوّل إلى مصدر لهواجسه. على المستوى الدلاليّ لا تخرج أعمال معرض (أغنيات منزلية)، الذي أقامه الجميليّ في عمّان العام الفائت، عن إطار هذا المضمون: رجل متوحّد تسطو عليه أشياء غرفته، وتثير حيرته. وهو مضمون أدبيّ جرى التعبير عنه بوسيط بَصَريّ، وخضع لفعل الرسم بأهوائه الحرّة، متحوّلاً إلى مادة ذات طبيعة خاصّة، ومنتقلاً إلى كيان أيقونيّ، ومحققاً نتائج بَصَريّة باهرة بفضل التكنيك البارع لهذا الفنان، إلى جانب حمولته الدلالية الأدبيّة التي ليس ممكناً تفاديها في ضوء ما يُرى كحكاية على سطح تصويريّ، أو التبرؤ منها بالقول "لستُ معنياً بأدبيات العمل الفني..." كما ينوّه الجميليّ في دليل معرضه. لكنه لا يلبث أن يؤكدها، بعد ذلك، بقوله "مازلت أسعى لتقديم النصّ البصريّ على أساس فنتازي"، أو بوصفه فضاء مدونته البصريّة بـ "فضاء غريب"، والشخصيّة المركزيّة فيه بـ "رجل غريب حائر".   وإذن فـ (أغنيات منزليّة) تنويعات على ما يمكن رؤيته عياناً كقصّة بطلها "رجل غريب حائر" يعيش مع نفسه في "فضاء غريب"، "فنتازي" تختفي حدوده، ويحضر فيه ما يستعصي حضوره بمنطق الواقع، وتحصل أشياؤه الجامدة على روح تمكنها من التشكّل والتحرّك على هواها عابثة بالفضاء وصانعة فوضاه، في حكاية بوسعنا أن نرى، خلالها، حدثاً يقع كدخول مفاجئ لكلب على المشهد، أو اجتياحه من قبل طائرة، أو حصان. وحتى الزمن يجري التلميح إليه بظهور الرجل نفسه في أكثر من جهة، وتأرجح أحواله بين قيام وقعود واستلقاء في فضاء اللوحة الواحدة.   وكرسّام مدّد صدام الجميليّ جسدَ قصّة "الرجل الغريب الحائر" على سطح تصويريّ، وشرع يعالجها بمواد وعجائن خليطة، بعد أن جعلها تحت تصرّف فعل الرسم، فانقلب الهدف أو التوجّه من القص، الذي احتجب لسانه وصمت، إلى إنشاء علاقات جمالية بين مرئيّات شتى... وبين هذه وفضاءاتها، صارت الحكاية سطحاً لتقلبات الخطوط والألوان، وتدفقها الحرّ، بنتائجه غير المتوقعة، كما لو أنّ الأمر تحوّل إلى مباراة تتنافس فيها قوى الرسم، وتحقق رغائبها، بإشراف خيال عكف، حتى النهاية، على وظيفته في المفاضلة بين مقترح جمالي وآخر مانحاً جدارة الوجود على السطح التصويريّ لما يشاء من مقترحات الرسم. وتُظهر أعمال (أغنيات منزلية) شغف الرسّام بإنشاء بناء لونيّ خاص بكل لوحة، يحافظ على هارمونيّته في عدد من اللوحات، ويكسرها في أخريات. وفي كلّ الأحوال تتراوح المعالجة اللونيّة بين انطباعية محدثة تستقل وحدها أو تختلط بتبقيعيّة مخففة. وتظهر الألوان على السطح مفرطة الحيويّة كما لو أنها مشحونة بانفعال طاغٍ إلى الدرجة التي تجعلني أظنّ أنها تمتلك شعوراً بطاقاتها، وتتدفق بهذا الشعور. كما تستسلم سطوح بعض اللوحات إلى صخب لونيّ هائج يبرّره الاحتدام الداخلي للرجل المتوحد. وبين أعمال الجميليّ عملان تخفت فيهما ضجّة الألوان ويغطي سطحيهما لون منفرد بلا تدرجات على مساحة اتسمت باختزال مفرداتها كأنها أفرغت للتأمل، والتقاط العين.    ويتأرجح الخطّ لدى الجميليّ بين وظيفته التقليدية في منح الأشياء حدودها الخارجيّة، وضبط المساحات، وبين التخليّ عن هذه الوظيفة تماماً بالذهاب طولاً وعرضاً على حقول الألوان ليقوّي من تأثيرها، ويُعمّق تماسكها، وهو خطّ تتنوّع إيقاعاته بتنوّع تجسّداته، رهافةً أو سماكة، وامتداداً أو تقوّساً....يهتمّ الجميليّ، كذلك، بخلق توازن بين تشخيصيّة انطلق بها وبين تطلّعه إلى التعب

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram