أحمد عبد الحسين قالتْ العربُ قديماً: "مَن حذّرك كمنْ بشّرك". لكنّ بعض النفوس مجبولة على كراهية النذير حتى لو كان صادقاً، ودفن الرؤوس في رمال الطمأنينة الدافئة إلى أن تحين ساعة الحقيقة التي تأتينا من حيث لا نحتسب فتبغتنا وتتركنا نادمين على عدم إصغائنا للتحذير الذي كان يمكن أن يكون إصغاؤنا له بشارة بالخلاص.
أمس كان حوار مع النائب السيّد باقر جبر الزبيدي في قناة "العهد" قال فيه كلاماً طالما ردده محللون وإعلاميون مخلصون ووصموا بالمروق ومعاداة العملية السياسيّة، على عادة النهج الذي تمارسه الحكومة في أعلى مراتبها، النهج المتمثل بتخوين كلّ من ينتقد السيّد المالكيّ وحكومته.قال الزبيدي:إن العملية السياسية فاشلة، وإنها إذا استمرت على هذا النحو فنحن مقبلون على كارثةٍ أسوأ من الاحتراب الأهليّ لأنها ستجعل دولة اسمها العراق أثراً بعد عين، وقال إن "التحالف الوطني" لن يظل متماسكاً طويلاً لأنّ "البعض" يمارس التفرّد في اتخاذ القرار ولا يستشير حلفاءه، النائب لم يسمّ هذا البعض بالاسم ولا أظنّ أنه بحاجة لتسميته فنحن وإياه نعرف اسمه وصفته وكنيته.قال الزبيدي:إن هناك معركة قادمة ستحدث على أسوار بغداد، بل ذهب أبعد من ذلك حين قال:" اتصلتُ بمرجع دينيّ بارز وقلت له: حتى أنتم في النجف استعدوا للمعركة المقبلة، فسألني المرجع مازحاً: هل نبدأ بحفر الخنادق؟ قلت له جاداً: نعم احفروا الخنادق!"الزبيديّ الذي وصف حكومة المالكي بحكومة الأزمة، أسهب في تفصيل هذه الأزمة وآثارها المستقبلية الكارثية لكنه لم يضع يده على أسبابها، ولا أظنّ أن أحداً من الساسة العراقيين من يمتلك عمق الرؤية لتبيان الأسباب، وإن امتلك أحد منهم الرؤية فلن يملك الجرأة لكشفها.أسّ المشكل وجوهره يكمن ببساطة في أن السياسيّ العراقيّ لا يتحرّك إلا طائفياً، يتغذى بالطائفية، وليس في الطائفية إلا السموم، ساستنا ـ على اختلاف مشاربهم ورغم احترابهم ـ يشتركون في النظر للعالم من ثقب طائفيّ ضيّق، يساعدهم على ذلك أن هواء الطائفية المسموم أخذ ينتشر في محيط العراق الإقليميّ بقوّة، وانتقل من كونه تياراً متشدداً محدوداً ليصبح ـ بقوّة ردّ الفعل على ما تفعله إيران وحلفاؤها ـ رأياً يكاد يكون عاماً، وخوف الإيرانيين وساسة العراق الشيعة مما سيحدث في سوريا خوف مبرّر طبعاً، لأنهم يرون أن السوريين الآتين بعد الأسد يحملون ذات السلاح الذي بيد ساستنا الآن، سلاح الطائفة، لكن فوهته موجهة إليهم هذه المرة.الطائفةُ تمنح لمعتنقها أفضل الأسباب للقتل والاحتراب، إنها هويّة قتل، والنبوءات القيامية التي تزخر بها كتب الطوائف عن جيوش تأتي العراق من الشام وإيران ليقطع بعضهم أوصال بعض في مأدبة دموية كبرى، هي عيدُ الطوائف ومهرجانها وقيامتها الصغرى، لا تختلف عن رؤية السيّد الزبيدي عن المعركة التي ستحدث على أسوار بغداد والتي تستدعي منا أن نبدأ بحفر الخنادق.شكراً لباقر الزبيديّ الذي بشرنا بمستقبلنا، لأن مَن حذّرك كمنْ بشّرك.لكنْ.. ماذا لو ترك ساسة العراق حفر الخنادق واستغلوا الوقت بعمل مفيد على غير عادتهم وعلى سبيل التغيير، ماذا لو غيروا زاوية نظرهم إلى العالم، ماذا لو ترك الجميع الثقب الطائفيّ قليلاً، ماذا لو تصرفوا كسياسيين؟ هل يمكن ذلك أم.. فات الأوان؟
قرطاس: احفروا الخنادق
نشر في: 30 يناير, 2012: 08:46 م