ناصر الحجاجخلال التسعينات من القرن الفائت كان صدام حسين يمعن في التنكيل بالعراقيين بعد أن قيدهم بحبل الحصار و"العقوبات الدولية"، وكان آنذاك يمعن في بناء أكبر القصور المرمرية في أجمل المناطق العراقية، حتى أنه اغتصب أروع البساتين في منطقة السراجي جنوب مدينة البصرة إلى أبي الخصيب ليحولها إلى منتجع خاص به سميت في ما بعد بالقصور الرئاسية. كانت السراجي غابة متنزهات يقصدها البصريون، العراقيون والخليجيون لقضاء أوقات سعيدة برفقة الماء والخضرة والوجه الحسن، فصيرها صدام مكانا يحرسه مسلحون بالرصاص والكلاب البوليسية، ليؤكد عبرها أنها "قصور الشعب".
بعد 2003 عدت من منفاي إلى هذه الأرض، إلى أرضي التي روتها دماء إخوتي ورفاقي مدين حسين وحكمت عيسى سوادي (شاعران) مؤيد عبد الحسن ومطشر مكي.. وعشرات سواهم في انتفاضة 1991، دماء سالت لكيلا يستمر صدام في إذلاله شعبنا، أهلنا في البصرة، وفي كل العراق. عدت لأجد أن شعبنا يجهل تماما ما له وما عليه، ولا يكاد يميز بين من هو معه ومن هو ضده. شعبي لا يعرف إلا من هو في السلطة، إلا من يظهر على شاشات التلفزيون وإن كان عاجزا عن النطق بجملة مفيدة واحدة. يا لشقاء الأقدار والتقديرات؛ انتخب البصريون ـ مثلا ـ 24 نائباً ليبنوا نظاما عادلا بديلا عن نظام صدام، إلا أنه لم يسبق لأي من أولئك النواب أن عارض نظام صدام؛ لم يسبق لأي واحد منهم أن كتب مقالا خلال حكم صدام يعارض فيه سياساته القمعية، إن كان أحدهم يعرف معنى الكتابة. لم يسبق لأي منهم أن خرج في مظاهرة أمام سفارات صدام أو أمام مقرات الامم المتحدة كما كنا نفعل خلال التسعينات، لم يسبق لأي منهم أن أقام ـ مثلنا ـ ندوة، أو حوارا تلفزيونيا أو إذاعيا حول جرائم القتل الجماعي للعراقيين في أبو غريب على أيدي صدام،.. أما أن يكتب أحدهم قصيدة تؤرخ لثمن الرصاص الذي يطلبه القتلة من ذوي الضحية إمعانا في التنكيل، فأمر أكبر من أن أطلبه ممن يدير شؤون العراق اليوم. لهذا كله تعاليت عن أن أنتظر قرارا حكومياً يكافئني على ما قدمته للعراق وللعراقيين طيلة فترة منفاي، ونأيت بنفسي عن أن أطلب بيتا أو قطعة أرض تمنحها "الدولة" ـ إعلاميا ـ للمهجرين أو للصحفيين، فلدي من الأرض على نهر الفرات ما يكفيني لإقامة بيتي وبيوت أولادي النبطيين(النباتيين) القادمين. لهذا كله لم أستغرب من أن ترفض وزارة التعليم العالي الاعتراف بشهاداتي الجامعية بحجة أن الجامعة اللبنانية في نظر "العراق" لا تستوفي معايير الرصانة العلمية، كما أخبرني "المتخصصون". لم أستغرب حين سألت عن قرار "عودة الكفاءات" في الملحقية الثقافية في واشنطن، فوجده خبراً من الأخبار. وفي كل مكان في هذا العراق، يقال لي: ادفع وخذ ما تشاء! فأرفض أن تحل عليّ اللعنة التي مسخت حياتهم جحيما، فأعيش مثلهم في نكد الملعونين من رشاة ومرتشين. قيل لي، أينما حللت: استخدم "الواسطة" فأنت تعرف الوزير ومن هو أعلى من الوزير أو بمستواه، فأمتنع من أن أكون مثالا سيئاً بعد طول نضال من أجل العدالة في بلاد لم تعرف العدل. وهنا أتساءل: كيف للعراق إذاً أن يرجو الوصول إلى بر الامان الاقتصادي والاجتماعي وهو يضع "الحواجز والسيطرات" السالبة أمام أبنائه الذي يريدون خدمته! كيف للعراق أن يحقق ذاته كبلد مستقل وهو يضع "المعرقلات" المادية والمعنوية الخطية والشفوية التي تستبعد الطاقات العلمية والاجتماعية التي تريد العودة إلى العراق؟ ضربت ـ هنا ـ نفسي مثلا بسيطاً، وأنا أعرف أن هناك رقماً ليس قليلا من العراقيين الذين بهم يرتفع مجد العراق، بهم يعود العراق عراقاً، وبهم يكون العراق عراقاً. عراقيين قادرين على إعادة العراق إلى اسمه، وإعادة اسمه إليه من جديد. ليس يحول دون ذلك إلا خطوة يخطوها العراق نحوهم. فليخطُ العراق اليوم خطوة واحدة باتجاه من قطعوا أميالا دامية مريرة شاقة إليه. هناك عراقيون ليسوا "دمجاً ولا علاسة ولا صكاكة ولا قفاصة وليسوا بحواسم" هناك مِن أبنائك مَن يشبه السندباد أيها العراق! وإن كانت الملحمة الشعرية الأولى وثقت رحلة كلكامش وأنكيدو إلى غابة الأرز، ودونت على ألواح الطين أمجادهم ومآثرهم البطولية، وسجلت إيابهم إلى أهوار أوتو نابشتم حيث عشبة الخلود، فإن ملحمة أخرى بانتظار أن تُكتب لتعيد لأبناء العراق البررة حقهم في الخلود. أتجرّأ الآن أن أتحدث باسمهم: أبناء كثر قتلوا، سجنوا، عذبوا، نفوا، تغربوا من أجل العراق، وقد آن الأوان ليعترف العراق بجهودهم ويقدرهم ببعض ما يستحقون من قدرهم. لأنهم ـ بحق ـ وجه العراق، ويده ولسانه. وبغيرهم يبقى دولة بلا هوية، ووطناً بلا ملامح وأمة عالة على غيرها من الأمم، أو شعباً يدفع نصف راتبه لمسؤوليه ليبقى غائبا عن مسؤوليته يدخن السكاير ويشرب الشاي ويتحدث في مآسيه التي لا تنتهي.
ربـاعيــات: عودة أنكيدو مــن غــابــة الأرز
نشر في: 31 يناير, 2012: 07:38 م