شاكر لعيبييُسْعَد المرء حقا بالقلة من الأصدقاء الشعراء الذين يقرأون الشعر بنُبلٍ وحُرقةٍ وفروسية. والمفردات الثلاث تنتمي إلى القرون السالفة، كما يلوح اليوم في عصر التواصل الافتراضي، لكنها ما زالت تحتفظ بمعنىً خفيّ قويّ. هذه القلة القليلة نادرة في زماننا الذي صار الشعراء في الغالب يقرأون فيه بعضهم بروح أقل ما يقال فيها أنها مريبة، والريبة مفردة لم تغير معناها منذ أن اختُرِعتْ.
في السعادة بلقاء شاعر في فضاء أدبي عام يقع التفاؤل بعالم خيّر، أكاد أقول أفلاطوني، يجاوِر ويحاور الأغلبيةَ الملتذةَ بمضاربات الواقع، المتساكنة فيه والآكلة على مائدته بشراهة الأصناف كلها.يُسْعَد المرء، ويودّ تكريمهم في حياتهم، لأن كل تكريم متأخر هو إجحاف ولؤم وظلم. وعلى قدر ما يُستطاع سنحاول بين فترة وأخرى استذكار بعض الأصوات الشعرية، النابضة بالحياة بيننا، لهذا السبب عينه لا لسواه، وبمناسبة أعمالهم الطالعة يقينا من أشخاصهم. في هذه اللحظة يحضر أمام ناظري الشاعر عواد ناصر. يُصدر عواد اليوم عن دار المدى مختارات شعرية بعنوان "أحاديث المارة"، وينبّه القراء، في كلمة أولى مقتصِدة عن الخوف من كتابة الشعر ونشره، خلافاً لشعراء لا يهابون شيئاً البتة عندما يتعلق الأمر بأمر مرهف مثل الشعر. جُل قصائد المجموعة تشكل نوعاً من البوح. كلّ بوح يتضمن سردية مخادعة تبدو ظاهرياً تعليقا على أمر عابر أو غير عابر، بينما هي جوهرياً محاولة للإمساك بمفهوم عصيّ عن أشياء العالم، سواءً تعلق الأمر "بحديث" عواد ناصر عن القصيدة التي لم يعثر عليها، أو عن شخص اسمه حميد الواقف بين تحقيقين سياسيين. القراءة المتمعنة ستقود إلى التيقن من انهماك المختارات، بشكل إجمالي، بهموم ملموسة، أود تسميتها بالأرضية مقابل الشجون الميتافيزيقية، متمسكة بفضاء سائل، دون صلابةٍ نهائيةٍ تتناوب فيه أسئلتها. لهذا السبب عينه، لا تختار "شكلا" شعرياً واحداً وتتأرجح بين القصيدة الموزونة وغير الموزونة، وما يُسمّى بفظاظة نقلاً حرفياً عن سوزان برنار بـ "الكتلة" النثرية،.لقد كُتبتْ المختارات على رقعة زمنية ومكانية متناثرة واسعة نسبياً، الأمر الذي يفسّر تنوُّع أشكالها، وذهابها من أقصى تخوم النثر إلى مديات الوزن الخليلي، من شكل حرّ دون قيود خارجية إلى آخر يلتزم التزاماً بقيوده النغمية. لكنها موسومة في مجملها بملْمَحَيْن اثنين: هذا النزوع المُسمّى اليوم سردياً، وذاك الهمّ الإنساني الضارب في روح الشاعر الذي قد يُطلق البعض عليه سياسياً. أفهم السياسي بالمعنى الذي منحه الإغريق له: فِعْل الشاعر في المدينة. وليس بالمعنى العربيّ المباشر الرائج. بين السردي والسياسي ثمة تعالق داخلي لا تخطئه العين، يقع في أن موضوع القصيدة يختار طواعية إطاره. وحتى لو ذهبت قصائد الشاعر في غنائية صدّاحة بقافيةٍ ملّحة، فإن هذا التعالق الموارِب يظل شاخصاً في مكان ما في ثنايا النص.رغم الصوت الشخصي الطالع بعناد في غالبية قصائد العمل، فقد أبطلت صفة "المختارات الشعرية" فيه إمكانية التمامه على وحدة موضوعاتية أو شكلية مقيمة. كان بالإمكان القيام بخيارات قاسية تستبعد بعض النصوص. أمر لا يمكن إلا للشاعر نفسه القيام به وليس سواه، وهو أمر صعب كما أعتقد بسبب احتفاظ كل نص يكتبه الشاعر بمكانةٍ روحية خاصة لديه حتى لو اعتقدنا نحن بعدم ضرورة إدراجه في مختارات صارمة كهذه."أحاديث المارة" عمل يمنح القارئ المعنيّ بالشعر فرصة للتأمل بالتغيرات الجمالية في قصيدة عواد ناصر، والاستمتاع بشاعر لم يتح له، طوال الثلاثين سنة الماضية، التواصل العضويّ مع القارئ العراقيّ، بل وصل نصه على شذرات إلى بلده العراق، لأسباب تاريخية معروفة.rn
تلويحة المدى: القلة من الأصدقاء الشعراء..
نشر في: 3 فبراير, 2012: 07:10 م