جاسم العايف بقي المثقف الحر في العراق مهدداً بالقمع والإقصاء وتغييب دوره في القضايا التي تهم وترسم أسس وطنه و مجتمعه ومستقبلهما وكشف مصادر الخلل فيها وتشخيص أسبابها، ويتجلى فعل المثقف في ذلك عبر مساهماته من خلال إنتاجه متمثلات و صورا وأشكالا وحلولا ترتبط بذاته وتصوراته للأوضاع الاجتماعية وما عليها الظروف السياسية التي مرَّ بها وعايشها، وكذلك تلك التي تحيط به وتواجهه يومياً،
ويستطيع بذلك الإبداع والعمل على تحرير تصوراته وطرحها على قدر ما يتاح له من حرية في التعبير، دون خوف من مجهول والعمل على التخلص حتى من الرقيب الذاتي، اعتماداً على إخلاصه لوطنه وشعبه،دون شكوك أو نوايا سيئة تلاحقه من إي كان، و بالتلازم مع الإمكانات والقدرات الثقافية والمعرفية والعلمية التي يتمتع بها المثقف ذاته.وبحكم طبيعة السلطات المتعاقبة على إدارة الحكم في العراق تم تغييب دور المثقف الوطني في التطور والحراك الاجتماعيين،لا بل جوبه المثقف العراقي الذي لا ينسجم مع السلطة ويخضع لها بأشد حالا ت القسوة والفظاظة وبعضهم اختفى إلى الأبد دون معرفة مصيره حتى اللحظة، والبعض الآخر غادر العراق بوسائل عدة،مغامراً بمصيره الشخصي واضعاً ذاته الإنسانية بين (جفني الردى) للخلاص من فكي ذئب شره ولا يشبع من نهم الدماء، خاصة في أواخرعقد السبعينات المنصرمة، وما تلاها. وبسبب تأثيرات الوضع الاقتصادي خلال حقبتي الحروب والحصار وغياب الحد المعقول من مستوى العيش المناسب نشأت شريحة اجتماعية- ثقافية مارست ثقافة (الغنيمة) معززة بالانتهازية واستثمار الفرص والكسب على حساب الكرامة الإنسانية، وفقا لشعارات تبررها السلطة السياسية القامعة دائماً لكل ما لا ينسجم مع توجهاتها،و لكن (مثقف) السلطة ظل يعمل عليها ويروج لها بانسجام مع أجهزتها ومؤسساتها المتعددة لتسويق وتبرير ثقافة العنف والحروب التافهة الخاسرة، وتوجهات القمع والهيمنة و (إنتاج الولاءات) لتبرير رغبات السلطة الفظة والوحشية، وتحقيق أكبر قدر من النفعية له. وفي المقابل وعلى الضد من هذا التوجه ثمة من المثقفين من عمل، وظيفياً، بالمؤسسات الثقافية السلطوية دون الاندماج أو التناغم بأي شكلٍ كان،مع تلك (الولاءات) أو تكريس خطابات وتوجهات السلطة، مستخدمين الرمز والاستفادة من حيوية اللغة وفضاءاتها الغنية الموحية والمتعددة،غير عابئين بالغنيمة ومردوداتها أو بالمراكز وأرباحها. بعد زوال سلطة الرأي والحزب الواحد والقائد (الضرورة) لا تزال إشكالية علاقة المثقف الحر بالسلطة قائمة، فالمؤسسات الثقافية الرسمية و بعض المدنية ولدت محملة بتراث السلطة المنهارة وبعض قيمها وتوجهاتها، وهي إلى الآن لا تدرك أهمية الاختلاف مجسداً بحرية التعبير على وفق القناعات الخاصة ويشاركها في ذلك كثير من الأطراف والحركات السياسية التي ملأت فراغ منظومات الدولة التنفيذية والحقوقية ومؤسساتها المنهارة، والتي كان الأمل في أن تغدو تلك المؤسسات وطنية وديمقراطية،حقاً وفعلاً، وهو حلم العراقيين الأزلي، دون تمييز أو احتكار على أسس عرقية أو دينية - طائفية مقيتة أو حزبية نفعية مغلقة أو مناطقية أو عشائرية، وعمدت بعض القوى والحركات التي تكاثرت كالفطر في تراب عراق ما بعد فجر 9/4/2003 لاستنساخ تجارب الأنظمة السلطوية القامعة المتعاقبة على العراق في فرضها أفكارها وتوجهاتها وبرامجها وتصوراتها على الناس، بوسائل وممارسات لعلها أكثر بطشاً وظلاميةً وعدوانيةً وقسوةً، مما سبقها.في حاضر ملتبس معقد كالذي نعيشه اليوم في العراق، يبدو استشراف المستقبل مغامرة، بالنسبة للمثقف الحر وللكاتب المستقل، فالنوايا والآمال والرغبات والأحلام ليست كافية هنا، لأننا وإزاء قتامة الحاضر وتركة الماضي، نواجه إحباطاً ليس له مثيل، فمسالة الآراء والتصورات الحرة والإعلان عنها والعمل عليها دون لبس أو خشية من (كائنات بشرية) تم وضعها في أطر (المقدس المتعالي) بعيداً عما هو أرضي لمخاطبة الحشود المقهورة والتآمر عليها، واعدينها بحلول لحياتها الشاقة الرثة الراهنة ستأتي من (هناك) بينما (المعركة الفعلية) هي (هنا ) وعلى هذه الأرض التي يحيا عليها البشر ويسعون بطرق شتى لتغيير حياتهم الراهنة وصناعة تاريخهم عليها وعلى وفق شروط معطاة لهم، ومفروضة عليهم، ويحاولون بدأب التغلب عليها، و الإبداع وتجسيداته،بكل أنواعها، تظل قضية تخص الثقافة الحرة ومعطياتها المتجددة والتي لا يمكن تأسيسها وقيمها، دون مواجهة إشكالات كثيرة،كالحرية والرغبات البشرية، الآمال، الهزائم،الأحلام، والتطلعات المشروعة في العدالة الاجتماعية- الإنسانية والتي يجب أن تشمل الجميع، ونداءات المستقبل وبوحها العلني والخفي.. وللمساهمة في تنوع المشهد الثقافي- الاجتماعي العراقي لا بد من استشراف الآراء والرؤى المتعددة وحرية الدخول وحتى الاشتباك معها سلمياً في جدل حي خلاق وتواصل بناء شفاف، دون لغة التخوين وبعيداً عن احتكار الحقيقة وارتهانها لصالح فئة أو جهة واحدة مهما كان حج
المثقف الحرّ بين جدل التغيير والقنوط
نشر في: 3 فبراير, 2012: 07:55 م