(القسم الأخير)
بغداد / المدى
أما النوع الثالث من القتلة فهو الأصعب من حيث الفهم. إنه الاكتئاب، في ما يتعلّق بجرائم القتل الجماعي؟ نحن جميعا عانينا الاكتئاب، أو نوعا ما منه، وهذا ما نعتقده.
لقد شعر ديلان كليبولد، قبل ثورة غضبه في كولومباين، أن روحه تموت. عاجز، عاجز، وعجز لا يلين. لقد وثقه في يوميات خاصة لمدة عامين. وترك ذلك أيضًا بمقالات كتبها في المدرسة وأشرطة فيديو سيئة. وتوفر ثروة من المعلومات واحدة من أكثر الصور إضاءة عن أصل تحوّل الاكتئاب إلى موجة من حوادث القتل.
ويدوّن كليبولد في يومياته: "لدي ذلك الشعور بالحزن والخواء والعزلة الذي لا يمكن البراء منه، ليس عدلاً، ليس عدلاً! أريد السعادة! ولم أحصل عليها أبدا! دعوني ألخص حياتي. إنها الأكثر بؤسا في تاريخ الزمن."
وفي أيام أخرى، ارتفعت روح كليبولد، وحلم بعالم سعيد، بحالة من فوق البشرية الغامضة بحيث أصبح ذلك المرسل والمستقبل لكل شيء."إنه المجد. الهدوء. الذي يشعّ بالحب. لقد ملأ كليبولد صفحات كاملة بقلوب باذلة. ويتدفق بين صيحاته الانتحارية ليقول "يا إلهي، أنا واثق من أنني أعيش الحب، وفي وقت آخر يقول لا عواطف لا اكتراث، إنها مرحلة أخرى في حياة هذا القرف. الانتحار."
وبعد ثلاث سنوات من مجزرة كولومبين تأتي صرخة مذهلة فقد وجد جهاز الخدمة السرية أن 78% من مُطلقي النار لديهم تاريخ من محاولات الانتحار أو الأفكار الانتحارية. وكان 61% لديهم تاريخ موثق من الاكتئاب الشديد أو العجز .
لا تكمن الصعوبة في التعرّف الى المشكلة، بل الصعوبة تكمن في حدتها. إنه صبي غاضب مكتئب؟ وهذا يأتي على الكثير من شباب المدرسة الثانوية. وكتبت والدة ديلان، بشكل مؤثر عن تجربتها في مقال لمجلة سين في عام 2009: " أعتقد أنه لو أحببت شخصا ما بذلك العمق من الحب، فسأعرف لو كان في ورطة". لكنها كانت ترى الحزن فقط. وتضيف أنه لا يتحدّث عن الموت، بل التخلي عما يملك، أو قوله بأن العالم سيكون أفضل حالاً بدونه.
الانزلاق للجحيم
وتقدّر قوة المهمة الأمريكية للخدمات الوقائية أن 6% من المراهقين الأمريكيين- مليونا طفل- يُعانون الاكتئاب. ومعظمهم من دون تشخيص. وبنظرة سريعة على يوميات كليبولد، من السهل أن نفهم الانتحار. ولكن لماذا تأخذ آخرين معك؟ القتل بدلاً من الانتحار ينتهي إلى الشخص الذي يقع عليه اللوم. من خلال الكثير من يومياته يلوم كليبولد نفسه (فهو يتحدّث عن الانتحار في الصفحة الأولى). ولكن ببطء، وتدريجيا، يركز على توجيه اللوم إلى عوامل خارجية.
إن معظم مرضى الاكتئاب المنتقمين يُلقون باللوم على صديقة، أو رئيس، أو صديق في المدرسة. والبعض يهدف فقط إلى قتل تلك الأهداف. ولكن القاتل الجماعي يرى الأمر في نهاية المطاف بشكل مختلف: فلم يكن شخص أو اثنان من الناس الذين اقتادوه إلى هذا الدرك، بل جميعنا. إن المجتمع وحشي، والعالم كله يعجّ بالخسة. وعلينا جميعًا أن نفهم ما فعلناه له، وعلينا أن ندفع الثمن. وآخر ما كتبه كليبولد: في 26 ساعة ونصف سيكون السوء قد مات بسعادة. وسيعرف خَدَمَةْ الإنسان من الأفاعي الصغيرة أخطاءهم وسيُعانون إلى الأبد وسيحزنون. ههههها."
وقبل شهرين من كولومبين، كتب قصة قصيرة تقشعر لها الأبدان كانت لصالح فصل الكتابة الإبداعية في المدرسة، بعد ذلك جمع هاريس بالفعل بنادق وبعضا من المتفجرات. وكانت القصة تحتوي على قاتل مفرد يشبه إلى حد كبير هاريس كان يقتل "متدربين" بصورة عشوائية وبدم بارد، ويبدو أنها ذات الأجواء المقرّرة في مجزرة كولومبين. وعلى ما يبدو أن شخص الراوي الأول، يقابل كليبولد، وهو مجرد مراقب.
وكان يشاهد المسلح باهتمام، وفي اللحظات الأخيرة، يحصل على نظرة جيّدة، ويحدّده بدقة حيث يكتب: "لا أركز في وجهه فقط، ولكن شعر أيضًا بالقوة المنبثقة منه، بالرضا، والتقرب، والورع". إنها تبدو جميلة جذابة. لا سيما بالمقارنة مع "الوجود الأكثر بؤسا في تاريخ الزمن."
وتبدو تلك التوصيفات مشابهة بشكل لافت للنظر إلى صخب تشو، ولكن كليبولد يدرك ما كان يقوم به. في حين أن تشو فقد القدرة على تمييز الحقيقة من الخيال. في واقعه، إنه كان يساعد العالم. في حين أن كليبولد يعرف أنه لا يقوم بذلك.
يرغب معظم القتلة الجماعيين أن يموتوا أثناء التنفيذ. ومعظمهم يقومون بذلك. إلا جيمس هولمز كان استثناء، وهذا يعني أنه يريد محاكمة، وتقييمًا نفسيا، ويقدّم أجوبة حول لماذا حدث ذلك في هذه المرة.
إذا كان هولمز هو مختل عقليًا، فمن المحتمل أنه كان يقيم حفلاً يوم الجمعة. وكان فرحًا خلال الأشهر التي بدأ يفكر فيها ومن ثم الانتقال للتخطيط والهجوم. وإذا لم يكن مختلاً عقليًا، فإنه قد أمضى شهورا أو سنوات لينزلق إلى جحيمه. ولكن أي جحيم؟ هل هو جحيم الجنون أم الاكتئاب الانتحاري؟ إن أي شخص يدعي أنه يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة فهو جاهل أو غير مسؤول. ولكننا سوف نتعلم.
تشو سونغ ـ هوي
طالب ولد في يناير 1984، ومسؤول عن حمّام الدم الذي ارتكب في جامعة "فيرجينيا تيك" في أبريل 2007 حيث قتل 32 شخصًا وجرح 25 آخرين، وكان ذلك القاتل الجماعي يتجوّل في قاعات الجامعة، منتقيا الأرواح ليزهقها.
وتحدث شهود نجوا من المجزرة عن سيماء القاتل خلال قيامه بإطلاق النار فقالوا إنهم لم يلحظوا حالة إثارة ـ أو حتّى استمتاع ـ تجاه ما كان يقترف. بل قالوا إن هناك شيئا من "اللا متعة" الباردة في عملية القتل، وتحديدا شيء يصعب وصفه على عكس المتعة المنحرفة التي يتميّز بها القاتل المتسلسل.
ولد تشو في كوريا الجنوبية وجاء إلى الولايات المتحدة وعمره ثماني سنوات لم يُسجّل عليه شيء باستثناء أنه في عام 2005، وبعد قيامه ببعث رسائل مزعجة لطالبتين في جامعته، توصّلت محكمة فيرجينيا إلى حكم قضائي بحقه وصفته فيه "بالخطر على نفسه وعلى الآخرين".
في المدرسة الإعدادية، تمّ تشخيص حالته بأنه مصاب باضطراب القلق الشديد، فضلاً عن اضطراب اكتئابي وبعد هذا التشخيص بدأ تلقي العلاج واستمرّ في تلقي العلاج، وتلقى دعما تعليميا حتى المدرسة الثانوية.
ومع ذلك فإن توليفة الغضب تضمّنتها شرائط فيديو التي صوّر نفسه بها، وصور فوتوغرافيّة ونصوص، أرسلها في يوم تنفيذه جريمته، تؤكد أن ذلك قد تطلّب منه أن يقوم بتحضيرها أياما عدّة على الأرجح.
وتطغي على التوليفة الصوريّة والنصّيّة المسجّلة التي تركها تشو، النرجسيّة. ولم تترك كلماته التي نطق بها أمام الكاميرا وأرسلها للمحطّة الإخبارية، مجالاً للشك بأن ما قام به جاء ترجمة لما يعتمر في نفسه من هواجس نرجسيّة. لقد قال لضحاياه في واحد من تسجيلاته المصوّرة، " شكرًا لكم، فها أنا أموت كيسوع المسيح."
علاقة الاكتئاب بجرائم القتل الجماعي
نشر في: 14 أكتوبر, 2012: 04:52 م