ترجمة وتقديم: هاتف جنابي توفيت يوم الخميس المصادف الأول من شباط/ 2012 (فيسوافا شيمبورسكا) الشاعرة البولندية الشهيرة الحائزة على جائزة نوبل في الأدب(1996). كان لها من العمر 89 سنة. اشتد عليها المرض كثيرا قبل موتها حتى أنها ماتت أثناء نومها. فنعتها الأوساط البولندية الرسمية والشعبية وكذلك وسائل الإعلام العالمية.
شيمبورسكا شاعرة التفاصيل والتناقضات بامتياز. شاعرة " الجزالة الشعرية" و"السهل الممتنع" بامتياز. كل قصيدة من قصائدها, مهما كان مستواها هي قصيدة جديدة، تشكل حضورا وتفردا بامتياز. تكاد تكون شيمبورسكا قد كتبت عن مختلف شؤون الحياة بطريقتها الخاصة، بحيث أصبحت كل قصيدة لها بمثابة لوحة إما أن تتفاعل معها أو ترفضها وهذا أمر صعب المنال بالنسبة لعموم الشعراء. يغلب الوعي على ما هو سواه- في مجمل عملية الخلق الشعري لدى الشاعرة. الأمر الذي لا ريب فيه – وهذا بحد ذاته استنتاج يتسم بالمخاطرة في النظر إلى الأعمال الفنية عموما- هو أننا لا نلمس في شعرها تخطيطا مبتسرا وسابقا على ما يمكن أن ُيخلق ويعتمل ويجري في خضم المخاض الشعري. هذا الوعي يتدخل بعد الشروع في عملية الخلق مباشرة. هذا ما تقوله القصائد. علينا أن نتذكر أن الوعي شيء والتخطيط شيء آخر. شيمبورسكا شاعرة مقلة ومقتصدة في القول الشعري(لها 350 قصيدة منشورة). فلو كانت تخطط للقصيدة سلفا لجلست وسفحت ما تريده على الورق, خاصة وأن القارئ (محليا وعالميا) والوسط الشعري متعطشان لجديدها. قالت في مقابلة مع الراديو البولندي ذات يوم: إن القصيدة تجيء بهيئة فكرة فإما أن تكتبها مباشرة أو أن تكتب جزءا منها وتعود لتكمله فيما بعد أو أنها تسجل الفكرة في دفتر. كل شاعر يرغب في كتابة قصيدته دون الرجوع إليها مرة ثانية ولكن هذا ليس أمرا سهلا دائما. لماذا تراني مدفوعا لإثارة هذه النقطة؟أود هنا أن أشير إلى ثلاثة أقطاب أو بؤر. ألا وهي الجو الشعري، والمزاج الشعري للشاعرة، والمسؤولية الملقاة على عاتق كل كاتب، وأعني بذلك المسؤولية عن قيمة ومستوى العمل الفني. ما يعود للشاعر هو مزاجه الشعري، وهو أيضا ما تخيله العرب القدامى والإغريق وحددوه بشيطان الشاعر أو بجن الشعر. نعم، للشاعر جنه وجنونه وهوسه الفنيّان. وهذا بحد ذاته لا ضرر فيه إن كان بمستوى عملية الخلق الفني ذاتها، بدون تصنع ومسخ وتطاول وادعاء.شيمبورسكا استطاعت أن تساهم في خلق جوّ مناسب للشعر والشعراء في بولندا. لا يخلق الشاعر حالته الخاصة وحسب وإنما يمكنه أن يعلي من شأن قومه في نظر الآخرين وبذلك يذكرنا بما كان يفعله الشاعر المجيد لقبيلته في عصر ما قبل الإسلام. على صعيد آخر لم يتوفر لها المزاج الشعري الذاتي، مقارنة بتعاظم مسؤوليتها كشاعرة - نجمة(تلاحقها الأضواء هنا وهناك) لكي تضيف على سبق وإن كتبته من حيث الكم والمستوى والتجاوز. يعني أنها لم تخلق تحولا في شعريتها بعد نوبل. يتحكم في عدم الإضافة هذه بشكل أو بآخر، كل من تقدمها في العمر والطموح الفني العالي لديها وخوفها من المغامرة غير المحسوبة العواقب، إضافة إلى اللعنة المتمثلة في تقاعس الشاعر أحيانا عما يمكن أن نسميه" اقتناص اللحظة الشعرية" والجرأة أو"المجاهدة في خلخلة" ما اعتاد عليه فنيا! حتى أن أحد الشعراء البولنديين(برونيسواف ماي) المقربين منها قد قسّم حياتها إلى مرحلتين: ما "قبل مأساة نوبل في 1996 وما بعدها".يعني أن حصولها على جائزة نوبل هو مأساة شخصية لها أكثر مما هو فرحة ومجد، لأن الجائزة قد جلبت لها الشهرة والأضواء التي كانت تكرههما بخلاف الكثيرين. بعد فوز شيمبورسكا بجائزة نوبل، جرى تناقل طرفة، في مدينة كراكوف حيث كانت تعيش الشاعرة، فحواها أن صيادا اصطاد سمكة ذهبية وطلب منها أن تلبي له رغبته في الحصول على امرأة ذكية متواضعة لطيفة مشهورة وغنية وبعد عودته إلى بيته وجد شيمبورسكا بانتظاره! ثمة ما يستوقف المرء ويحيره بعد قراءة كل قصيدة من قصائد الشاعرة. كل قصيدة تتمثل في موضوع رئيس- فكرة محورية. ومن أجل تجسيدها تقوم الشاعرة بتوظيف كل من الكلمة والفكرة إلى أقصى حد، معنويا وصوتيا(بما في ذلك الإيقاع) ودلاليا، وذلك على محورين أساسيين يشملان بنية القصيدة وجوها الخاص والعام. وأنت تقرأ كل قصيدة على انفراد تجد نفسك منساقا لإنهائها و من ثم لإعادة قراءتها من جديد. لذا فإن البساطة الظاهرية للقصائد خادعة، فلا تعطي القصيدة نفسها بمثل السهولة الظاهرية. قصيدة شيمبورسكا تدافع عن نفسها فنيا وفكريا. اللفظ في خدمة المعنى والمعنى يتجلى في اللفظ. إنهما طرفان في خدمة قضية واحدة اسمها القصيدة. وعليه فالفصل بينهما غير مرئي تماما بل يمكن أن نقول أنه غير وارد. نفس الشيء يحدث لدى شيمبورسكا على صعيد آخر. إذ لا يمكن بناء قصيدة بمعزل عن الفكر والفكرة على السواء. كما ولا يمكن فصل بنية القصيدة عن سياقها الشعري والجمالي ورشاقتها الشعرية. حتى السخرية الشائعة في شعرها لا تتمادى في غيها أبعد من كونها عنصرا ضمن مشروع فني الهدف منه خدمة جانبين هما: الفني- الشعري و الفكري. قد تتدخل هذه السخرية أحيانا في تشكيل الإطار العام لمعمارية القصيدة. ولا أدري حتى النهاية، لأ
رحيل شـاعــرة نـوبــل فيســوافـا شيمبورسـكـا "1923- 2012"
نشر في: 5 فبراير, 2012: 10:18 م