سرمد الطائيما جدوى مظاهرات ينظمها بضع مئات من العراقيين ويشاهدها على التلفاز ملايين الناس؟ يمكنني أن أتساءل عن جدوى كل شيء، لكن ليس في وسعي إنكار ان كل ما حصل في العراق والمنطقة خلال العام العاصف 2011 يؤكد صحة القرار الذي صنعه شباب الفيس بوك العراقيون من سيحان الى بيخال، وخروجهم الى اول تظاهرات احتجاج من نوعها قبل نحو سنة.
وبرغم كل ما قيل عن خيبتنا من التفاصيل، الا ان الرسالة التي كتبت بغضب ودماء المحتجين وايضا بتمدنهم وتحضرهم، هي ان الديمقراطية خيار لا رجعة عنه، وان "فخامة السلطان" لن ينام هانئا في مخدع الخطايا الكبيرة، وأن هناك من سيجرؤ على مساءلته شعبيا. وشخصيا فإن التظاهرات علمتني ان لا أيأس.لقد سبقنا استاذنا عدنان حسين في التذكير بأهمية هذه المناسبة التي صارت ذكراها الاولى على الابواب. وربما نحتاج ان نعود سنتين لنسترجع اول احتجاج مدني مطلبي ظهر في عراق نوري المالكي، وهو "انتفاضة الكهرباء" حين خرج الآلاف في البصرة بتظاهرة فخمة حظيت بلمسات مخرج محترف ولافتات ساخرة مرسومة بذكاء، وقدمت للصحافة اجمل الصور الصالحة للنشر على الصفحات الاولى. وبعدها بيوم خرج شباب الناصرية في تظاهرة رددت بأهزوجة مموسقة "وين الكهربا يا دولة القانون".يومها كنت انظم مع الاصدقاء اعتصاما متواضعا في ساحة الفردوس افتتحناه بألف قضية ونشرناها في قلب بغداد على شكل لافتات مكتوبة بخط الرقعة "الكتل تخوض مفاوضات ابدية والعراق يغطس في الظلام والقمامة"، "المالكي يزعم مكافحة الفساد ونحن لا نعرف كم يقبض اهم عشرة موظفين في الدولة"، "الجرائم ترتكب في وضح النهار، والحكومة ترتهن ليل بغداد بحظر التجوال"..الخ.وحين سألتني صحيفة واشنطن بوست يومذاك عن الغاية من اعتصام ينفذه بضعة ناشطين وأدباء وصحفيين، قلت لهم: الحكومة تواجه من يعترض بقوة السلاح، وتنصت لمن يحمل السلاح، وتتفاوض مع من يحمل السلاح. اما نحن فنريد ان نقوم بتدريب الحكومة على ان تنصت وتتفاوض، مع معترضين لا يحملون السلاح، بل حفنة مطالب تتدخل في رسم مصائرنا جميعا.وقبل كل هذا كانت تظاهرات "حرية التعبير" التي نظمتها النخبة، لونا من البروفا المهمة، وبعدها جاءت حملة "بغداد لن تكون قندهار"، كبروفا مهمة اخرى، لكن الذروة التي جرى فيها استعراض ممكنات العمل المدني هي 25 شباط فبراير، التي افتتحت سلسلة مظاهرات ينظمها بضع مئات من الناس ويشاهدها على التلفاز ملايين العراقيين.اتذكر جيدا ان تظاهرات شباط جاءت في توقيت مناسب للغاية. لقد كنت اعلق بضعة آمال على الخارطة الجديدة لانتخابات الفين وعشرة وامكانية ان تجعل المجلس الاعلى يعترض على طريقة ايران في ادارة اللعبة، وان يساهم الصدريون والعراقية في بناء برلمان جريء يحاسب ويساءل، وان يقبل المالكي بحقيقة التعددية. لكن خاب ظننا وبدأت الاحتمالات السوداء ترتسم فوق رؤوسنا (وهي تقديرات لم تكن متشائمة لأن ما يحصل اليوم من انسداد سياسي هو نتيجة اول جلسة برلمان ظل فيها المالكي يضرب على فخذه، وغادرها علاوي ثم عاد بطريقة ساخرة).تلك الاجواء اشاعت شعورا باليأس وجعلت اداءنا الصحفي خاملا مستسلما للخيبة.. حتى صرت أسأل نفسي عن جدوى الاحتجاج الذي يتوعد به شباب الفيس بوك بل وجدوى الكتابة والصحافة. الا ان الشباب اثبتوا انهم اكثر قوة من يأسنا، واستدرجوا الحكومة الى اكثر فضائحها دويا، وكشفوا عوراتها في كل "ساحات التحرير"، وبعثوا فينا الأمل واثبتوا سهولة ان نضغط على الحكومة بل ونخيفها لو تحرك المجتمع المدني بشيء من الجرأة وشيء من التنظيم.احتجاجات العراق المجيدة كشفت عورات السلطات الثلاث، وأثبتت ان الحراك المدني هو السبيل الوحيد لمنع شهوة الاستبداد ولجعل السلاطين يضربون على افخاذهم كلما ارتفع صوت "عيال الفيسبوك". وهذا ما سيرسم خياراتنا كأمة طيلة العقود المقبلة. تحية لكل من سقط شهيدا وجريحا ولكل من وقف هاتفا للحرية وللحياة.
عالم آخر: 25 شباط: الضرب على فخذ السلطان
نشر في: 6 فبراير, 2012: 09:47 م