نجم واليقبل وفاته بوقت قصير، قال الكسندر تيشما في مقابلة معه بأنه لا ينتمي إلى صنف المفكرين الكبار، لكن هذا لا يمنعه من قول انطباعاته بشكل عام: "قرأت خواطر قليلة وفلسفة أقل. ذات مرة كنت ضيفاً عند صديق، فتصفحت عنده بالصدفة أحد أجزاء كتاب الانعكاسات لروخي فوكو.
عند قراءتي لبعض المقاطع عرفت أن كل فكرة تقريباً يمكن أن تحمل معنى معاكساً لما تقوله في الظاهر وبنفس قوة الإقناع". كان تشيما محقاً بتعريفه لنفسه، فقد ظل شخصية بسيطة حتى وفاته. وكان كلما تقدم به السن كلما راحت شخصيته تقترب من شخصية الفلاح اكثر منه من الكاتب. حتى في مظهره وطريقة لبسه إذ واظب على لبس تلك البدلات التي اعتاد رجال البلقان على لبسها أثناء خروجهم للنزهة في المدينة ليحتفظوا بها بعد ذلك بعناية سنوات طويلة.وإذا كانت النظريات "الكبيرة" لم تثر عنده الكثير إلا أن تيشما صاحب النظرة المليئة بالشك باتجاه العالم لكنها القوية والحاضرة تعامل مع الإنسان بصفته مخلوقا من طبيعة غير قابلة للتغير. "هناك نوعان من المخلوقات؛ الأول يكرس نفسه لتلبية نداء ضرورات وجودنا الخاص، أما الثاني فإنه يكرس حياته لتدمير وجود الآخرين". وبين هذين القطبين تتحرك شخصياته الروائية والقصصية وتتطور بصورة محبوكة وتوتر مليء بالتشويق. جميع كتبه ترينا هذا الانتقال المفاجئ بين الجنة والجحيم، بين الجمال والرعب. فمثلما تحتفي بأفراح الحياة البسيطة، بالطبيعة، بالصداقة وبالمأكولات الشهية والجنس، مثلما ترسم في نفس الوقت الجحيم المصنوع من التعذيب والإبادة الشاملة والعواصف الثلجية والخوف الغريزي من الموت. طبعاً ظلت الثيمة المركزية التي دارت حولها هي المذبحة التي حدثت في شتاء 1942، على يد كرواتيين نازيين ضد السكان اليهود الصرب في مدينته "نوفي ساد" عندما أعدموا رمياً بالرصاص أكثر من ألف شخص أعزل، أطفال ونساء وشيوخ قُطعت أوصالهم ورُميت في حفرة عميقة في نهر الدانوب المتجمد. أما مكان المذبحة هذه فقد كان مسبحاً عاماً؛ في إحدى قصصه الحزينة جداً صور تيشما المكان بكل مفارقاته: أولاً بصفته مسبحا صيفيا مليئا بالذكريات وثانياً بصفته مكانا للوحشية.عندما حدثت المجزرة كان عمره 18 عاماً، وكان والداه مثل معظم سكان "نوفي ساد" من قوميتين وديانتين مختلفتين، الأب صربي والأم يهودية هنغارية – لم يكن زواجاً غريباً بالنسبة للمدينة المتعددة القوميات نوفي ساد. أما الخادمة التي عملت في البيت فقد علمته في طفولته، اللغة الألمانية والفرنسية. لم ينس تيشما هذه الفتاة "الذكية واللطيفة" وجعل خيالها يطوف عبر معظم رواياته الأخيرة. أما الحرب العالمية الثانية فقد نجا منها عبر ما أطلق عليه لاحقاً "التجاهل"، أو ما سماه "التقليل من الشأن ذاته": كعامل إجباري في حفر الخنادق العسكرية بمواجهة الدبابات الروسية، أو كموسيقي في وحدة عسكرية للعزف الموسيقي (رغم جهله بالعزف على أية آلة موسيقية). أما هزيمة النازيين في ستاليننغراد فقد سمع بها كما قال في مقابلته الأخيرة، أثناء زيارته لإحدى البورديلات، ومن فم جندي ألماني.الكسندر تيشما الذي كان يتحدث ويقرأ بلغات عديدة كان يحلم بعد انتهاء الحرب بالقيام برحلات كثيرة عبر بلدان أوروبا الغربية، لكي يعيش بنفسه الديموقراطيتين الفرنسية والإنكليزية، النموذجين الديموقراطيين الوحيدين اللذين احترمهما، لكن النظام الشيوعي اليوغسلافي أجبره على قبول حياة قروية في "نوفي ساد"، حياة مليئة بالكآبة بعيدة عن الثقافة؛ وكان يُمكن أن تستمر حياته على رتابتها وأن يموت منسياً هناك لولا اكتشاف أوروبا لأدبه بعد أزمة وحروب البلقان في نهاية الثمانينات. هكذا تحول تيشما في التسعينات إلى أكثر كتّاب البلقان، والبوسنة بالذات، المُحتفى بهم. كانت بالضبط تلك السنوات التي بدأت فيها "دولة البارتيزان" التي أسسها تيتو تتقطع إلى أوصال صغيرة؛ وفي تلك السنوات دبّ الحماس من جديد عند تيشما ليبدأ بكتابة عمله الروائي الضخم المتسلسل الذي قدم فيه بانوراما شاملة عن سنوات الحرب العالمية الثانية التي عاشتها يوغسلافيا، حيث الأوتيشا الفاشية، وإبادة اليهود والمقاومة الصربية ونهاية طرد الأقلية الألمانية. الحصيلة هي أربع روايات ومجموعة قصصية. بسرعة تُرجمت أعماله للغة الألمانية، لنتعرف فيها إلى روائي عبقري ينتمي إلى أولئك الروائيين الكلاسيكيين العباقرة. صحيح أنه لم يكن تجريبياً مثل جويس وفوكنر ولم يصور كل شخص بورجوازي بتعرجات حياته الداخلية، إلا أنه نجح في تصوير مسارات الكائنات الصغيرة، وتشريح التراجيديا المرسومة للهولوكوست البشري: المُطارَدون والمقتولون، الجلادون والضحايا الذين ظلوا على قيد الحياة. وأكثر من كل شيء، صور أولئك الذين يحملون الاثنين في داخلهم، الذين هم جلادون وضحايا في الوقت نفسه، كما كتب في يومياته التي ظهرت بعد وفاته. الكسندر تيشما الذي تمر الذكرى العاشرة لوفاته العاشرة في هذه الأيام هو أحد الكتّاب المهمين الذين للأسف مازالوا مجهولين لقراء اللغة العربية!
منطقة محررة: في ذكرى البوسني الكسندر تيشما
نشر في: 7 فبراير, 2012: 07:23 م