فريدة النقاش تتراكم الشواهد التي تقول لنا بلسان فصيح إن الثورة المضادة تعمل بنشاط بالغ لتعوق مسيرة ثورة يناير نحو التقدم. وإن من مكونات هذه الثورة بل وقياداتها أبناء الرئيس المخلوع وزوجته، وقد وفر لهم الأمن والمجلس العسكري الأجواء الملائمة للقيام بأدوارهم الجديدة وهم مرتاحون.
وذلك بعد أن فشلت كل مخططات رجال الأعمال الذين راكموا الثروات في ظل علاقاتهم السابقة بفساد السلطة في تكوين قطاع ملموس من الرأي العام تحت عنوان آسفين يا ريس أو أبناء مبارك أو أبناء العباسية وغيرهم. ورغم أنهم استأجروا أو - لنقل - استمالوا إليهم عددا من الكتاب والكاتبات والإعلاميين والإعلاميات الذين ارتبطت مصالحهم وثرواتهم بعصر «مبارك»، رغم ذلك كله فإنهم فشلوا في أن يجعلوا ما أسموه بالأغلبية الصامتة تنحاز لرؤيتهم وأساليبهم ومصالحهم. بل على العكس من ذلك فإن الأغلبية الصامتة عبرت عن نفسها تعبيرا راقيا وبارعا فيوم 11 فبراير سنة 2011 لدى خلع «مبارك» حين احتشد ما يقارب العشرين مليون مواطن مصري في الميادين والشوارع في كل أرجاء مصر ابتهاجا بخروج «مبارك» من الحكم. وتكررت الظاهرة وإن على نطاق أضيق في الاحتجاجات التي عمت البلاد من أقصاها إلى أقصاها تنديدا بالمجزرة التي وقعت في بورسعيد مؤخرا.ولطالما جادلت القوى الرجعية دفاعا عن احتكارها لتمثيل ما تسميه بالأغلبية الصامتة، وراهنت على هذه الأغلبية في زمن ما قبل الثورة، واتهمت الفاعلين السياسيين من المحتجين ومنظمي الإضرابات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية بأنهم أقلية لا يلتفت إليهم أحد، وقيل أيضا شرذمة ضئيلة من أعضاء التنظيمات السرية والحركات الاجتماعية الجديدة.وما لم تلتفت إليه هذه القوى الرجعية التي هيمنت على الثروة والسلطة وأدارت مؤسسة الفساد المتشعبة هو أن البلاد ظلت لسنوات طويلة تتراكم ببطء وصبر عناصر ثورتها. وهذا رقم واحد يدلنا على النشاط الذي كانت تتم به عملية التراكم هذه،حيث شهد عام 2007 وحده 2700 احتجاج وتظاهرة. وتكونت منذ عام 2004 حين نشأت حركة كفاية كحركة اجتماعية عشرات من المنظمات واللجان النوعية في طول البلاد وعرضها، دفاعا عن العمال والفلاحين وحقوق الكتاب والفنانين..إلخ واتسع نطاق حركة النقابات المستقلة.وقبل ذلك بسنوات قليلة كانت منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان على نحو خاص قد بدأت مسيرتها التي أنتجت عبر عقدين تراثا عميقا من الكتابات والممارسات التي فتحت عيون ملايين المصريين على الآليات الجديدة للدفاع عن حقوقهم رصدت ذلك كله في ظل احتدام الصراع الطبقي مع تدهور مستويات المعيشة لغالبية المصريين. وانسداد الأفق أمام الأجيال الجديدة التي تطلعت إلى المستقبل فوجدت ظلاما. - من قلب هؤلاء خرج مئات الآلاف من الشباب الذين وفرت لهم ثورة الاتصال أداة جديدة لا فحسب للتواصل في ما بينهم وإنما أيضا للحصول على المعرفة الحقيقية التي حجبتها عنهم أجهزة إعلام مدجنة، ومناهج تعليم تلقينية ومؤسسات دينية عملت في خدمة الحاكم وأسر تقليدية بذلت الغالي والنفيس من أجل توفير التعليم لأبنائها فربما يحصلون على فرصة في هذه الغابة الموحشة، وتخيلت هذه الأسر أنها تعزل أبناءها- باسم حمايتهم- عن الغليان في المجتمع، ولكنهم كانوا يتعلمون ويعرفون ويحتجون ويتواصلون وينشئون في ما بينهم عوالم جديدة عبر العالم الافتراضي الذي خبروا أسراره وأتقنوا مهارات التعامل معه فشكل لديهم وعيا جديدا ورؤية نقدية. وبالتزامن مع هذه الحقائق كان السخط الشعبي يتراكم وينتج وعيا ربما راهنت عليه الثورة في ما بعد، وخاطبه شباب الثوار بعد أن أشعلوا فتيلها وتبلورت حقيقة أن التغيير الذي حدث لم يكن فوقيا سياسيا فحسب ولكنه تغير ثقافي أيضا أخذ يضرب بجذور عميقة في المجتمع المصري نفسه لا في مؤسساته الفوقية وحسب، وهو الذي أسس لبروز هذه الملايين في الساحات تأييدا للثورة.ومن الخطأ الفادح أن نستخلص من نتائج الانتخابات فرضية تقول إن المجتمع المصري بقي على حاله يمينيا وراكدا، فلنتائج الانتخابات أسباب أخرى.ولهذا كله سوف تتواصل الثورة وتدفع بسخائها المعتاد ثمن انتصارها. في المستقبل حين تحقق أهدافها عيش- حرية- عدالة اجتماعية- كرامة إنسانية وتقتص بذلك لشهدائها وزهرة شبابها.
ما تراكم لن يضيع
نشر في: 8 فبراير, 2012: 08:43 م