فخري كريم
في وقتٍ ما، وقبل أن يلوكنا الاستبداد بطاحونته ويحول العراق كله على مساحة خارطته الجغرافية والسياسية، الى سجنٍ ورهينة،
كانت طلائع واسعة للمرأة العراقية قد شبّت عن الطوق ومزقت حواجز الخوف وحطمت حيطان التخلف وتحولت الى قوة تغيير مقدامة في المجتمع وفي الحركة السياسية واحتلت مواقع التحديث في عالم الثقافة والفنون .
وفي محطات تلك المراحل التاريخية المتوثبة، كانت رائدات التجديد والتحرر الاجتماعي والسياسي يتصدرن الصفوف الأمامية في تلك الميادين، ويزداد الفخر بأدوارهن، ويتسامين في ضمائر ذويهن وأولي أمورهن، حتى اصبح التفوق يكاد يكون حكراً عليهن في المدرسة والجامعة وضفاف الآداب والفنون، وتكرست أسماء لامعة من شاباتنا ونسائنا الفضليات في سماوات العراق والعالم العربي، فكانت من بينهن ، لؤلؤة الشعر الحديث والمحامية الأولى والأكاديمية الرصينة والمعمارية الخلاقة والتشكيلية المبدعة وكثرة من النساء اللائي ملأن الدنيا بحضورهن بعد ان تقدمن الصفوف في العالم العربي باستيزار الدكتورة نزيهة الدليمي كأول شخصية نسوية لدورها الريادي في تنظيم الحركة النسائية، وفي العمل الحزبي السياسي .
ولم يكن محض صدفة تلازم صعود حركة التحرر الوطني، ليس في العراق فقط بل في أرجاء العالم العربي والإسلامي، مع انعتاق المرأة وتحررها من قيود التخلف الاجتماعي، وانخراطها في النشاط العام ، السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لتأمين أوسع تعبئة وطنية لانتزاع الحريات والحقوق المدنية والنقابية والسياسية لتحرير البلاد من الاستعمار والتبعية والتخلف. كما ليس من باب الصدفة أيضاً ان يرتبط الانحدار السياسي والانحطاط العام الذي مهد لصعود الدكتاتورية والاستبداد مع تراجع مكانة المرأة في المجتمع وانتكاسة حركتها النهضوية وعودة مظاهر أسرها في قيود التخلف .
واذا ما توقفنا اليوم امام مظاهر الهجوم على المرأة ومحاولات تجريدها من كينونتها الانسانية فسنجد ان ما يجري هو ليس بمعزلٍ عن التوجه لقضم الحريات العامة والخاصة والتجاوز على الدستور وتحويل دور المرأة ، كما هو حال الرجل، الى مجرد مظهر شكلي منزوع الجوهر. وقد انعكس ذلك في الإجراءات والتدابير التي شهدتها المحافظات وبغداد في اطار الحملة " الإيمانية الثانية " التي قادها والي بغداد ومعاونوه.
ان شكوكاً مشروعة تثار حول إجراءاتٍ من نوعٍ معين يُراد فرضها على المرأة، وتنال من كرامتها ككائن إنساني حر عاقل كامل السَّويّة.. إذ ان الإجراءات المقصودة التي تساق تحت باب " الشرف والعفة " والحماية من الإغراء وغيرها من الادعاءات الذكورية العصابية ، تترافق مع إشاعة ثقافة تعدد الزوجات، وجواز الاقتران بقاصر، وتوسع حالات الإغراء تحت الضغط والتهديد المبطن في الدوائر ومؤسسات الدولة للنساء بصيغ باتت معروفة، وغالبا ما يأتي هذا التهديد والإغراء من مسؤولين " شديدي الورع " لم يمضِ على تدينهم أكثر من الوقت الكافي للتستر على ماضيهم السياسي والأخلاقي المعروف. وإذ تزداد الدعوة لفرض الحجاب على القاصرات وملاحقة العاملات في الوزارات ومؤسساتها بالتزام " الحشمة " ، تتكشف " عورة الدولة " ودعاة " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " أمام مشهد أمٍ فاضلةٍ يدفعها العوز الى بيع بناتها " لإطعام " من يبقى منهن في عهدتها ، و " للحفاظ على شرفهن " ، كما تتكشف حقيقة دعاوى الورع امام مشهد عشرات الآلاف من الأرامل وأمهات الشهداء " ضحايا الإرهاب والمفخخات " وهن يقفن طوابير لاستلام منحة الحكومة العفيفة التي لا تكاد تسد الرمق ، او تحمي من غدر الزمن . ويتراجع الشرف والعفة بالنسبة لهؤلاء وهم يغضون النظر عن شاباتٍ وصبايا في عمر الزهور يبحثن في أكوام الفضلات عما يمكن الاستعانة به في سد حاجة لبيت يكون رب الأسرة فيه مقعدا او مريضا . ويبدو الشرف بالنسبة للدولة وقادة الحملة الإيمانية بمنأىً عن ظاهرة عزوف آلاف الفتيات عن مواصلة الدراسة، وامتناع عوائل الفقراء عن إرسال بناتهم الى المدارس بسبب العوز والفاقة..واكتظاظ تقاطعات الشوارع بعشرات الفتيات اللائي يحترفن الشحاذة في بلد المئة والعشرين مليار دولار، كميزانية سنوية.
وفي الوقت الذي تتصاعد فيه دعوات الحشمة الذكورية، تزداد ظاهرة فساد الذمة وشيوع البلطجة في مواخير الدولة المتفسخة التي تتجسد في تحول الرشوة " الكومشن " الى عادة مستحبة كما الفساد الاداري والمالي الذي بات جزءاً عضوياً من التركيبة البنيوية للدولة، واتخذت لها ابعاداً " شرعيةً " وقنوات محمية بالتغطية المؤسساتية، وفي ظل اهتمام وزارة النفط كامتدادٍ لوزارة المرأة " لأول مرة " وتوقع انتشار عدواها الى الوزارات والمرافق الحكومية الاخرى، فان الالتزامات الحكومية " المئوية " بتوفير الخدمات أصبحت أثراً بعد عين امام إغراء ما هو مستحبٌ من فروض التقوى والورع. فلا كهرباء ولا ماء ولا إعمار ولا إنهاء محنة البطالة ولا ملاحقة الفاسدين ولصوص المال العام ولا المحسوبية ، ولا المحاصصة الطائفية وأدرانها تصمد أمام إنجاز مهام الحملة الإيمانية الجديدة التي دشنتها وزيرة المرأة ، التي تبين بالصدفة أنها على مقربة من تنظيم والي بغداد.!
(٢)
في مواجهة الحملة الإيمانية الثالثة التي أطلقتها وزارة المرأة ودوائر حكومية اخرى والتي تنال (من حيث باطنها) من الخلق القويم لنسائنا وتسعى للحط من كرامة المرأة ككائن حر كامل الأهلية، يكون علينا رجالاً ونساءً مسؤولية التصدي للحملة بوصفها قضية حريات عامة لا تتجزأ فيها خصوصيات المرأة عما يُقضمُ من الحرية كمبادئ وقيمٍ للمجتمع ينص عليها الدستور. وخلافاً لما تسعى اليه الأوساط الحكومية والحزبية التي تقف وراء هذه التوجهات، و في أساسها التستر على الإخفاقات المتتالية للحكومة في المجالات الخدمية المختلفة وحفظ الأمن والاستقرار السياسي، فإن رداً مجتمعياً يضع في أولوياته إنصاف المرأة ، عاطلة عن العمل ، أرملة او زوجة شهيدٍ او سواهن ، من شأنه ان يعزل هذه الفرية الجديدة ويفضح دعاتها ويستعيد المبادرة في استنهاض الحركة من اجل الإصلاح السياسي والتغيير.
لقد شخّص الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري قبل 1400 عام المسافة بين الفضيلة والكفر إذ قال إذا ذهب الفقر الى بلدٍ قال له الكفر خذني معك.. لكن دعاة الفضيلة اليوم ، وقد أتخمهم الفساد والمال الحرام، قاربوا الفضيحة وهم يتجاوزون فاقة ملايين النساء وعوائلهن المهمومة بقوت يومها، الى حشمة ملابسهن وفيهن من لا تملك ما تستر به نفسها وبناتها من زمهرير البرد .
ان مطالب للمرأة والرجل قادرة على إلحاق الهزيمة بأعداء أبي ذر..ويمكن ان تتلخص في دعواتنا المشتركة التالية:
أولا : الالتزام بالدستور كمرجعٍ للحقوق والحريات " برغم ما تشوبه من نواقص وثغراتٍ مخلة".
ثانيا : إنشاء صندوقٍ حكومي للتضامن الاجتماعي يخص المرأة، يمنح الأرامل وعوائل الشهداء والعاطلات عن العمل والمطلقات وذوات الحاجات الخاصة ، راتباً شهرياً مكافئاً للحد الأدنى من رواتب الموظفين .
ثالثا : تغطية نفقات دراسة الطالبات اللواتي تعجز عوائلهن عن سد نفقات دراستهن .
رابعاً : إعطاء الأولوية للمرأة وفقاً لتوصيفات السلفة في الحصول على سكنٍ لائق وإلزام اصحاب المشاريع السكنية بتخصيص نسبة من الوحدات السكنية بأسعار مناسبة لهن على ان تتكفل الدولة بتسديد أقساطها .
خامساً : فتح دورات تأهيلية للنساء المذكورات وإيجاد فرص عمل لمن تتأهل منهن .
سادساً : تخصيص بطاقة تموينية مضاعفة لهن بإضافة حصة الموظفين الكبار ولصوص الدولة والتجار والعوائل الميسورة، على أن يجري ضمان استلام الحصة في مناطق سكن وبانتظام شهري .
سابعاً : اعتبار أي تعريضٍ بالمرأة في مواقع عملها والنيل من سمعتها، او محاولة اغرائها بأي وسيلة كانت، عملاً مخلاً بالشرف يتطلب المقاضاة امام القضاء، والحكم بالتعويض النقدي بما يساوي رواتب عام كامل.
ثامناً : الحريات وحدة مترابطة لا تتجزأ، والحقوق للمرأة مثل ما هي للرجل ، وخلاف ذلك إخلالٌ بالدستور .
تاسعاً : القيام بكل ما من شأنه إجبار الحكومة والحكومات المحلية بتحقيق التزاماتها في إعادة الحياة الى طبيعتها، بتوفير الماء الصالح والعمل وإعادة نور الكهرباء الى البيوت وإصلاح المرافق الخدمية الضرورية والملحة للحياة.
عاشراً : الخبز والحرية زاد الحياة والكرامة الإنسانية ، والحرية طريق العقلاء للاختيار والنضوج والصراط المستقيم بين الإيمان العميق والكفر والدجل ..
(٣ )
على وزيرة المرأة أن تستقيل .
وعلى النساء تشكيل لجنة وطنية عليا من الرجال والنساء ومن مختلف الاهتمامات والأعمار، تقوم بمتابعة شؤون المرأة في موازاة وزارة المرأة ، او بديلاً لها بإلغاء هذه الوزارة التي لا تعمل إلا من أجل ملء فراغ في نظام المحاصصة .