شاكر الأنباري بعد النتائج المربكة لثورات الربيع العربي يمكن أن يكون الحديث عن الدولة المدنية، أو العلمانية، ضرباً من اليوتوبيا. لكن في الوقت ذاته يصعب تصور فكرة الرجوع إلى المجتمع المحكوم بالغيب، والقمع، والواحدية الفكرية والسياسية. هل يمكن أن تعود الرؤية العلمانية إلى الواجهة مرة أخرى؟ سؤال مطروح على الجميع.
العلمانية هي أحزاب ليبرالية، وأفكار حرة، ومنظمات مجتمع مدني، وحركات ثقافية وسياسية واجتماعية، وتلمس العلمانية في حركات سياسية وأنماط تفكير شعبية، ومؤسسات مجتمع مدني تهتم بكل ما هو أرضي، كحقوق الإنسان، والبيئة، والحركة النسوية المطالبة بالحقوق المدنية وغير ذلك من اتجاهات، حتى الوصول إلى إيقاع مجتمع برمته. كانت الخارطة الاجتماعية للعراق، بخطوطها العامة، قبل سقوط النظام، تمتلك بصمات مشخصة بعض الشيء. هيمنة حزب قومي آيديولوجي، يمارس العنف على أوسع نطاق. مثل انهيار ذلك الحزب فرصة لخروج المسكوت عنه إلى السطح. فأصبح التدين الشعبي هو الآيديولوجيا البديلة لحزب البعث. وكان أيضاً بديلاً عن الأحزاب العلمانية التي كانت لها جماهير واسعة ذات يوم، مثل الحزب الشيوعي العراقي، والفكر الماركسي عموماً فضلاً عن الحركات القومية كالناصرية مثلاً. عبر عقود التسلط، أصبحت الاتجاهات العلمانية فردية وضعيفة، خاصة لدى الأجيال الجديدة التي تربت في أحضان الحروب والتفرقة الطائفية والتهجير والتحكم المذهبي في مفاصل الدولة العراقية. سلطة مرفوضة شعبياً، ويخشى من جبروتها، وجماهير سُدّت أمامها أبواب الخيارات فالتجأت إلى معينها التاريخي، أي الدين، سواء في قبول واقع صعب بصورة قدرية، أو باستخدام آلية التقية، وهي مجاراة الحكومة والتكيف معها حتى وإن كانت مرفوضة لدى البشر، ولا يمكن التصريح بهذا الرفض. أصبح الاحتجاج على العسف يأخذ طابعاً دينياً، من ذلك احتضان الرموز التي قتلها النظام باعتبارهم قادة تاريخيين لمسيرة تحررهم من جور السلطة. حاربت السلطات السابقة العلمانية، والعقلانية، والوعي، من جانب، لكنها لم تطمئن إلى الفكر الديني في الوقت ذاته، وبالخصوص البعيد عن سيطرتها. هذه الازدواجية أوقعتها في شرك البراغماتية المنفلتة، والديماغوجية في التثقيف والإعلام والشعارات المطروحة، منذ الثمانينات، خاصة، وحتى لحظة سقوطها. كانت السلطة حذرة من تفشي الظاهرة الدينية، فأقدمت على منع الاحتفالات الدينية، أو تقليصها للحد الأدنى، بعد أن لم يعد في الساحة من أيديولوجيا سوى أيديولوجيا حزب البعث، ورؤية مفردة ألا وهي رؤية القائد وبطانته للواقع العراقي. المأزق الذي يعانيه العراق اليوم هو هيمنة أحزاب مذهبية على شعب متنوع طائفيا، وقوميا، ودينيا، ومهما طرحت من حلول لهذه الأزمة لن تجدي نفعا في المدى القريب، أو البعيد. الخروج من المأزق هو حركة إصلاح جذرية للأحزاب الكبيرة، كي توسع من عباءتها لتصبح ممثلة للخارطة الاجتماعية برمتها. وهذا مطلب صعب ضمن المرحلة الحالية، لكن من دونه يصعب الحديث عن حل للأزمات المتلازمة. بمعنى آخر نحن بحاجة إلى ثورة فكرية، آيديولوجية، اجتماعية، تعيد مراجعة التجربة السابقة بشجاعة، وعمق، لكي تجد طريقها الصحيح. عدا ذلك يظل الطريق للخروج من النفق أبعد مما ترسمه مخيلة المتفائلين.
كلمات عارية :نقد التجربة
نشر في: 10 فبراير, 2012: 10:13 م