علي حسين قصائد كتبت بحرارة الحس والقلب، من دون التفلسف الذي يفسد على الشعر حيويته، من دون النفخ الكاذب للكلمات، تكثيف من المعاني والأفكار بتفرد شعري متميز، زحمة العبارات المركزة وأهمية الكلمة جعلت الشاعر يبتعد عن ترف الاسترسال والوصف محافظا على التوتر الداخلي لإيقاع القصيدة
وبنائها الذي يثور على النغمية التقليدية، هكذا شعرت وأنا أنهي قراءة الصفحات الأخيرة من ديوان صديقي الشاعر عبد الزهرة زكي "شريط صامت"، فأدركت أنني أمام لوحات خطتها ريشة رسام لا يغمض له جفن، فهو يقظ أبداً، يتسقط الكلمات بالعين فيوقد منها صورا تتناثر منها المعاني في كل صوب، صور الموت، الرصاص، الانتظار، القبر، الوحشة، المطر الأسود ..الخ . أشياء الحياة التي تحاصرنا كل يوم ، الأشياء التي أدى الطغيان وغياب العقل إلى ابتكارها واستخدامها، هي مادة عبد زهرة زكي في شريطة الصامت، إضافة إلى عوالمه الداخلية، القلق والبحث والتساؤل. يختبر هذا كله، يعيد النظر فيه، ويمنحه شكلاً آخر تراه العين في اضطراب كاضطراب الحلم. خمسة أشباح خمس بنادق .. ورصاصوظلام احمر يطبق على حلم لم يستذكره بعد كلمات كتبت بلغة الحياة بلا تعال عليها، وبموسيقى أشبه بفوضى أصوات البشر. ولم يكن ذلك غريبا على شاعر أخلص للقصيدة وأراد من خلالها أن يقدم مأساة شعبه، مؤكدا أن مأساة الموت العراقي هي مأساة القمع اللاإنساني الذي مارسه إرهابيون يشوهون الحياة لأنهم أعداؤها، وينشرون الدمار حيثما حلوا لأنهم كالكائنات الوحشية المنطلقة من الجحيم. كتب الشاعر حمزاتوف مرة متسائلا ماذا يعني أن تكون شاعرا؟أنه يعني أن يعيش الناس في دمائك، يغتسلون في عروقك.ويكتب عبد الزهرة زكي :"وظيفة الشعر هي أن تجعل المقول شعراً"هكذا تتقدم القصيدة حاملة عزاءها ومراثيها إلى العالم.. وفي الوقت نفسه تتقدم لتوجه سؤال الشاعر بمسؤوليته إزاء ما يجري حوله كأن سؤال الشاعر لم يعد قابلا لان يعيش في الأمل واليأس.. سؤال الشاعر صار أيضا بحثا عن جواب.. عن سبب فشل الشعر أحياناً في إشاعة الأمل .. عن تجديد يبحث عن حلم .. وعن حلم لا موت فيه في أفق أحلامي ، يتكرر قبر قبر لا أعرفه ، وكأن القصيدة الحلم كانت تخطو نحو افتراقها ومن هذا الافتراق تطل أسئلة جديدة.. كيف نصوغ الحلم الذي لا قبر يحاصره؟ كيف تأخذنا القصيدة إلى عالم بلا خوف ؟ إلى عالم يعيد الإنسان إلى نفسه.لن يلحق بالسيارة التي أمامهالسيارة التي في الخلف لن تلحق به والثالثة اجتازته لم تنفجر ثمة متسع للحياة يسأل جنرال فاشي بيكاسو بعد أن رأى جدارية جورنيكا بفظاعة تمثيلها للمحرقة الأسبانية:هل أنت الذي عمل جورنيكا؟يجيب بيكاسو: بل أنتم.السؤال عن العائدية يحمل الاتهام للفاعل الحقيقي لمجزرة الواقع تحريفا لسؤال الجنرال عن مجزرة الفن.فالفاعل الحقيقي يسأل الفاعل الفني وهذا يحيل بدوره إلى المرجع أو المحرّك، فلا عمل فنياً لولا وجود تلك المجزرة في الواقع، فالحرب تأتي كحدث طارئ ونكوص إلى حياة ما قبل المدنية أو ما يعرف بشريعة الغاب، حيث تحل المشكلات بفرض الإرادات وبالقوة التي تهدف الى سحق الآخر ، فالواقع ينبهنا دوما إلى أن الحروب إعلان عن شهوة الموت، فيما تنبهنا قصائد شريط صامت إلى أن الشعر شهوة الحياة، الحياة التي تذبح كل ثانية بعبثية مطلقة.***في إحدى وأربعين قصيدة ضمها ديوان شريط صامت نجد كيف استطاع الشاعر أن يؤسس لحضور بارز للواقع نلمس من خلاله نبض الحياة بتفاصيلها الصغيرة. فنحن أمام قصائد تحولت إلى لوحات ظاهرها يسلط الضوء على جزئيات الحياة اليومية وباطنها روحا قلقة أوصلت جزيئات الحياة إلى قطع مشعة، قصائد عارية من ضجيج اللغة مكتفية بالقليل من العناصر التي تصنع حياة الناس الشارع مغلق..انعطف بسيارته في الزقاقعلى حديد البنادق ملامحهم تمتزج بضوء الشمسلم يعثر على ما يقوله يتساءل نيرودا وهو ينظر إلى القتل المجاني في شوارع اسبانيا : "هل تستطيع هذه الحياة التي نحملها أن تقتل الموت المتفشي في عالمنا؟ ما نفع الأبيات أن لم تكن ضد ذاك الليل الذي يخترقنا كخنجر مرّ؟ ما نفعها إن لم تجعل النهار اقل سخفا والغروب اشد غروبا؟ ما حاجتنا إليها إن لم تكن ذاك الركن الحزين والجميل حيث يطيب لأجسادنا المطعونة أن تتهيأ للموت؟ نحن الشعراء نكره الكراهية ونحارب الحرب بالكلمة". فيما يتساءل دانتي: أليس، الموت موضوعا محببا للشعر؟ فمهما تحدثنا بحب عن الحياة أليسَ الموتُ أنموذج الموضوع الذي لا حديثَ بعده؟خلال الحروب يتعلم الشاعر أن النار تدمّر أكثر مما تتطهّر هكذا يصف ابولينير ما تخلفه الحروب ، طارحا على الجميع السؤال الذي لا يزال يؤرق كل الشعراء : هل الشعر قادر على قول كل شيء؟ سيسعى عبد الزهرة زكي في هذا الاتجاه إلى أن يجعل من قصا
شريط صامت..حين يلمس الشاعر دمَه
نشر في: 11 فبراير, 2012: 08:04 م