أحمد عبد الحسين قال هنري كيسنجر قبل أيام قلائل: "ان من لا يسمع طبول الحرب العالمية الثالثة تُقرع الآن فهو أصمّ"، قالها في حديث مطوّل له بمناسبة عيد ميلاده الخامس والثمانين. نعرف أن الرجل يشرف على نهاية عمره الذي قضى أكثر من نصفه وهو يحمل لقب "ثعلب السياسة الأميركية"، فهل سيشهد ـ قبل وفاته ـ نهاية العالم كما نعرفه؟
حديث النهايات سهل، خصوصاً لمن يترقب نهايته الشخصية ـ كما في حال كيسنجر ـ، ولمن لا يملكون إلا رسم النهايات بعد أن فقدوا القدرة على التحكم بحاضرهم كما في حالنا نحن.غالباً ما يأتي سيناريو نهاية العالم من قبل مَنْ لم يشترك في بداياته، ولم تقيّض له المقادير أن يشتغل على حاضره بما يترك له مجالاً للتحكّم في المستقبل. هذه حالنا نحن الذين امتلأتْ كتبنا بتأريخ للمستقبل أكبر وأوسع وأكثر تفاصيل من تأريخ الماضي، فمنذ أن فقدنا القدرة على عيش الحاضر استنفرنا في أعماقنا تلك الملكة التي لا يحوزها إلا العاجزون: مَلكة التحكم بالمستقبل ورسم يوتوبيا نفهرس أحداثها ووقائعها كما نشاء، لكنّ نهاياتها محسومة سلفاً لنا.علم المستقبليات الذي يباشره العالم بكلّ ما اجترحه من علوم ومناهج، نباشره نحن كحلم يقظة متواصل، حلم لذيذ يتخلل نواحي حياتنا كلها، ننام ونصحو وفي أذهاننا ان كل شيء على ما يرام مادام هناك منقذ سيصلح لنا مستقبلنا بعد أن دمرنا حاضرنا وماضينا. لكنّ المنقذ ـ هكذا علمتنا تجارب الإنسانية ـ يأتي قبل الأوان أو بعده بكثير، يأتي حين يكون كلّ شيء حطاماً فلا يجد شيئاً لينقذه، أو يأتي مبكراً حين لا أحد يشعر بحاجته إليه فينتهي نهاية مأساوية على يد من جاء لينقذهم.الأمر مختلف هذه المرة، حديث نهاية العالم جاء اليوم من فم رجل أدمن صنع وقائع الحاضر، لكنه يدخل الآن في هذه الجلبة التي تكثر فيها الألسنة الناطقة بالرؤى القيامية، مشتركاً مع عرّافي الفضائيات، ورجال دين من كلّ الملل، وضاربي وضاربات الودع وقارئي وقارئات ورق التاروت، لكنْ مع محللين سياسيين ذوي عقول راجحة، وكتاب سيناريو هوليوود الذين أثبتوا مرات عدّة أنهم يتحسسون الزلازل قبل وقوعها.هناك إغراء كبير في الحديث عن نهاية العالم أملى على أناس كثر أن يصرفوا وقتاً وجهداً في تتبّع وتأويل مدوّنات تأريخية تنبأتْ منذ القديم بنهاية للعالم في 2012 . لكن حديث كيسنجر بالتأكيد لا ينبع من إغراء كهذا، الرجل يدرك ان لا موضوع للقوّة سوى القوّة، كما أن السلطة تطلب سلطة أكبر والمال يطالب بمزيد من المال. القوّة الأميركية في ذروتها أمام أعداء سلطانها الجدد، أفق مسدود رآه كيسنجر العارف ان انغلاقاً كهذا سيعقبه انفجار كبير.أخطر ما في المشهد ان العقائد ـ التي اختلطتْ بالسياسة اختلاطاً يصعب فصله ـ هي التي تحكم العالم اليوم بشكل أو بآخر، والعقيد ذات نواة صلبة أبداً، تَكسِرُ أو تُكسَر، وهيمنتها في كلّ زمنٍ تمثل وصفة مجربة للاحتراب.في حرب كهذه ينجو من يأتي منقذه في التوّ واللحظة، من لا يتقدم منقذه ولا يتأخر، ذلك المنقذ الذي تحدثتْ عنه الشاعرة العظيمة "فروخزاد" حين كتبتْ: "انظرْ في المرآة لتعرف اسم منقذك!".
قرطاس:انظرْ فـي المرآة
نشر في: 11 فبراير, 2012: 08:06 م