اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تحقيقات > (المدى) تروي حكايات عن التعايش العراقي الجميل

(المدى) تروي حكايات عن التعايش العراقي الجميل

نشر في: 12 فبراير, 2012: 06:53 م

 بغداد/ عبد الكريم العبيديبدا المريض المسن منهكاً من صعود السلم الطويل رغم معونة ذويه. وحين أجلسوه على أريكة خشبية، همس مستعينا بالله: "يا الله يا عظيم يا الله". إلى جانبه، جلست امرأة عجوز ذات ملامح ريفية جنوبية، استعانت هي الأخرى مرددة: (يا علي يابو الحسن)،
وبينما رطن صبي مع والدته البدينة باللغة التركمانية، أقسم شاب "بالمسيح" ثلاث مرات أثناء حواره مع صاحبه، في حين كانت إحدى الفضائيات تعرض تحقيقا مصورا عن موضوعة ما يسمى بتقسيم العراق والفيدراليات وهجرة المسيحيين.حدث كل ذلك في عيادة طبيب أخصائي وسط العاصمة بغداد...rnعراق مصغرحالات "مؤتلفة" أخرى بدأت تتضح في تلك العيادة، كان هناك تباين حاد في لهجات أحاديث المرضى وأسمائهم وأزيائهم ونوع تذمرهم أيضا. بعضهم كان يلفظ حرف الجيم بطريقة أهل الشام. وآخرون يلفظونه ياء كما يفعل سكان جنوب العراق. السكرتيرة بدأت تفضح التباين في أسماء المرضى أيضا: "عمر، علي، إياد لوقا، سميع، كاوه".وبينما كان البعض يعتمر الكوفية والعقال "أبو شعر" كان آخرون يضعون على رؤوسهم صدارة أو كاسكيته، ويجلسون إلى جانب شابة سافرة وأخرى ترتدي (بنطلون كابوي ضيق)، وثالثة تخفي وجهها وجسدها بل وحتى كفيها بعباءة سوداء.الخليط "المتباين" هذا، بدا "متآخيا جدا" داخل عيادة طبيب استطاع بمهارته "فقط" أن يجمعه ويذيب اختلافاته الأثنية والعرقية، بعيدا عما كان يدور خارج عيادته، حتى أن رجلا في الخمسين من العمر لم يصبر على مطالعة افتتاحية في إحدى الصحف المحلية، فرماها على الطاولة وبدا وكأنه يزعق في وجه زوجته:"يا إلهي ما الذي حل بالعراق الآن!؟، في حين ظلت زوجته متماسكة، كأنها أدركت أن هذا الفاصل "العياداتي" القصير قد بدد كل (طائفياتهم) في الخارج، ووحدهم داخل عيادة طبية، بدت كعراق مصغر ولكنه موحد ومتماسك!واحة الانفتاحهذا هو ما يطلق عليه إذن بالتعايش الاجتماعي، وهو صورة ناصعة سرحت إلى سبعينيات القرن الماضي، إلى صف مدرسي وحصة التربية الإسلامية ومدرس اللغة العربية وذكريات لا تنسى.فمن المعروف أن حصة (التربية الإسلامية)، شأنها شأن حصص التربية الفنية والتربية الرياضية واللغة الكردية، كانت وما زالت   عرضة لغزو المواد العلمية في المدارس العراقية كافة، خصوصا في الأشهر الأخيرة من كل الأعوام الدراسية، وتلك ظاهرة غدت مألوفة للمدرسين والطلبة على السواء.لكن ما حصل في (مدرستي) ذات يوم هو وفاة مدرس التربية الإسلامية وبقاء حصته شاغرة قبل أن تتعرض كالعادة لغزو المواد العلمية لأكثر من شهر، الأمر الذي دفع بمدير المدرسة إلى تكليف مدرس اللغة العربية بتدريس مادة (الدين) مع إبقائه مدرسا للغة العربية، وهي خطوة بدت (مزعجة جدا) للمدير، وقد لجأ إليها مجبرا بعد اعتذار جميع مدرسي المواد الأخرى عن تدريس مادة التربية الإسلامية.ليس هذا هو كل أسباب انزعاج المدير وقتها، بل كانت النسبة الأكبر منها هو أن مدرس اللغة العربية كان معروفا بتوجهاته العلمانية، وكان (مفضوحا) بانتسابه السابق إلى أشهر حزب يساري عراقي في ذلك الوقت، قبل أن يجبر على التخلي عنه مكرهاً بعد اعتقاله وتعذيبه وإجباره على الانتساب إلى ما يعرف بـ (الصف الوطني)، إحدى خزعبلات عقلية النظام السابق المضحكة!قدم مدرسنا (الجديد) باعتباره مدرسا للتربية الإسلامية، وكان أول ما أثارنا هو (الكارزما) التي تصوره شكلا ومضمونا على خلاف مدرس الدين الراحل، فقصة شعر رأسه كانت تعرف وقتها بـ (الخنافس)، وكانت فتحة قميصه تظهر عدة حلقات من قلادة ذهبية مخفية، وكان يرتدي قميصا ضيقا جدا وبنطالا من نوع (الجارلس)، وكل هذه المظاهر كانت تتقاطع مع مدرسنا القديم الذي كان شبه حليق الرأس، وكان يرتدي قميصا فضفاضا مقفل الأزرار لغاية زر ياقته، وبنطالا فضفاضا أيضا، وكانت أصابعه تزينها الخواتم الفضية، ولا تفارقها مسبحة من نوع (101)، رغم أن لسانه كان يلهث (بحب القائد) على مدار شرحه لأية آية قرآنية حتى لو كانت من سورة الفاتحة!!بعد هذه المقارنة الظاهراتية بين المدرسين المتناقضين، حصلت مفاجأة كبرى أخرى لم يكُ أحد يتوقعها، فعند قراءة مدرسنا الجديد لقائمة الحضور، نادى باسم (ثائر ميخائيل)، فأجابه أحد الطلبة بأنه مسيحي،  ثم نادى باسم (صباح يعقوب) فقيل له انه مسيحي أيضا، ثم نادى (باسم سميع) فقيل له انه صابئي مندائي، وحين نادى باسم (مكسيم حزقيل) قيل له انه يهودي!، وكان من المعروف أن أي طالب من غير المسلمين لا يحضر حصة التربية الإسلامية وغير ملزم بها في الامتحانات.انزعج مدرسنا الجديد لسبب لا نعرفه، وطلب من أحد الطلاب استدعاء زملائنا وإعادتهم الى الصف، وبقدر ما كان الطلب صاعقا كانت عودة زملائنا على مضض أكثر دهشة.قال لهم أستاذ (الدين/ العربية): من المفترض أن نتجاوز الخصوصية التي تكرس الانغلاق،  وتجعلكم طلقاء في ساحة المدرسة المقفرة لمدة خمس وأربعين دقيقة ثقيلة تشعركم بعزلتكم. علينا ألا نناصر منطق الانغلاق على واحة الانفتاح، كي ننبذ كل ما من شأنه الحط أو استشعار الآخر بأقليته الدينية أ

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية
تحقيقات

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية

 اياد عطية الخالدي تمتد الحدود السعودية العراقية على مسافة 814 كم، غالبيتها مناطق صحراوية منبسطة، لكنها في الواقع مثلت، ولم تزل، مصدر قلق كبيراً للبلدين، فلطالما انعكس واقعها بشكل مباشر على الأمن والاستقرار...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram