سيف الخياطلم أستطع بعد التخلص من خوف الشرطة رغم مرور أعوام على إقامتي في باريس، ولم استطع التعود على تقاليد هذا المجتمع المستقر الذي يختتم أفراده يومهم بتصفح كتاب لطيف أثناء الاستماع إلى موسيقى الجاز الهادئة، يتلذذون بأوقات راحتهم على سرير دافئ، استعدادا ليوم جديد آمن لا مفاجآت فيه، في حين اقضي أنا ليلتي في تصفح المواقع الالكترونية لجرائد بغداد التي تدخلني من بعد في حرب مع كوابيس تفترسني، كالليلة الفائتة التي قضيتها وأنا أشاهد في ما يرى النائم، جدران طامورة الإمام موسى بن جعفر.
الدخول لهذا السجن المرعب لم يكن سهلا دون وساطة الصديق سرمد الطائي، الذي استطاع بطريقة ما إقناع سادن القبر الشريف بالسماح لنا بالنزول واستشعار آلام الإمام واستذكار سيرته وسنوات العذاب الطويلة التي قضاها تحت حكم أبناء عمومته ملوك وأمراء بني العباس. كانت الطامورة كما في السيرة ضيقة وعميقة، بالكاد تسمح لأجسادنا بالانزلاق داخلها، كأننا داخل اسطوانة طويلة دفنت في الأرض بشكل عمودي، إلا أنها كانت منارة بشكل لافت، لم الحظ حينها مصدر الضوء، وانشغلت مع صديقي في تتبع ما حفظته الجدران من آثار وذكريات وهواجس.كان سرمد قد نشر في صحيفة المدى ليلة كابوسي مقالة عن كابوس آخر، حيث رأى هارون الرشيد يستيقظ بصعوبة بعد ألف عام من النوم، وهو يسعل جراء دخان المولدات، يبحث قرب القشلة عن حاجبه وجنده الذين طمروا تحت أزبال بغداد. لم يجد الرشيد ملك عصره وجابي أموال العباد في شرق الأرض وغربها من يفتح له الباب، بل وصل الحال بالخليفة أن احد جنود الفرقة 11 حارسة الرصافة، حذره من التقاط صور أو الوقوف قرب جدران دار الوالي بعد أن مسح جسده بـ (أريل) يتعرف الى حشوات الأسنان والعطور ولا يكشف الـ (تي ان تي)!!هذه ليست المرة الأولى التي نلتقي فيها أنا وصديقي في عالم الأحلام، بل سبق وان كنا معاً في "فندق الموتى" قبل عام، وشاهد هو اعتراضاتي المتكررة على سوء الخدمات وانعدام النظافة في الغرف التي ينزل فيها المتوفون. تذمرنا من الجنود الواقفين أمام الباب والذين يفتشون أجساد الميتين السابقين واللاحقين، وكلما جاء باص يحمل فريقا قد مات للتو هرع الجنود لتفتيشه دون أن يعثروا بحوزتهم على شيء سوى الكفن.اعرف تماما فيزيائية وكيميائية عالم الأحلام، كل شيء فيها خارج المنطق العقلي، هي قوانين خاصة لعالم الأرواح الذي لا نعرفه بعد جيدا، إلا أنني استطيع الاستدلال على بعض المفارقات التي تجري، وهي ليست منفصلة عن خلجاتنا وهواجسنا ومتاعبنا اليومية وأمنياتنا.ففي حلمي ليلة البارحة بحثت كثيرا عن بقايا الإمام الكاظم في الطامورة، لكنني لم أجد إلا بعض الزخارف العباسية القديمة، إلى جانب آثار لمسجونين من عصور مختلفة. هناك صور لمسؤولين حكوميين وبرلمانيين عراقيين اقتطعت من صفحات الجرائد، وبعض الجمل المتشابهة والمعقدة. أيضا خطت على الحيطان أشعار مناهضة للطائفية وللإرهاب وللكذب والفساد، قرأت مقتطفات من تقارير صادرة عن منظمات دولية تتحدث عن انتهاكات لحقوق الإنسان، وعن تراجع في حرية التعبير.لست اعرف أي جدار اقرأ بالتحديد وداخل أي سجن، فأجيال العراق تؤرخ للسجن والسجانين كأنهما ضرورتان متلازمتان، فالخليفة أبو جعفر المنصور عندما قرر بناء بغداد، شيد إلى جانب سورها الكبير سجن المطبق، ومن بعد سجن الطامورة للرشيد، ثم سجن الأستانة في العهد العثماني، وسجن أبو غريب في العهد الملكي وسجن نقرة السلمان في العهد العارفي وسجن النهاية في العصر البعثي الأول وسجن الرضوانية في العهد الصدامي، وهؤلاء نحن نؤرخ اليوم لسجن بوكا وكروبر.ترى من يحرر الإمام من سجن الطامورة الذي نامتْ فيه أجيال من المعتقلين بتهم مشابهة. من يوقف أبناء جلدتنا عن ظلم البلاد والعباد؟ وهل سيبقى التاريخ يدور علينا بظلمه وسجونه، وهل سنعود نحن ثانية الى الطامورة؟ أتمنى ألا يحصل ذلك، وألا أراك في حلمـــــــــي مرة أخرى يا ســـــــرمد.
مفاتيح طامورة الكاظم وكوابيس الرشيد
نشر في: 12 فبراير, 2012: 07:58 م