طارق الجبوري نفضت الغبار عن كتب الماركسية بعد كل تلك السنوات الطويلة، عسى أن أجد ما يرشدني إلى أسباب هذا التراجع الكبير لأزمة اليسار العربي طوال عهود تسيد فيها الموقف دون أن يتمكن من أن يكون فاعلاً فيه، أسباب ظلت تشغل عقول العديد من المفكرين والباحثين بمختلف توجهاتهم ،
وأثارت العديد من الأسئلة التي لم تجد إجاباتها لحد الآن، ومنها ما طرحه المرحوم جورج حبش الأمين العام السابق للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ أحد ابرز قادة حركة القوميين الماركسيين عندما قال متسائلاً في مقال مطول نُشر بمناسبة ذكرى وفاته في شباط 2008، هل الخطأ في ماركسية ماركس وانجلز أم في الماركسية اللينينية أم الماركسية الستالينية؟ ويمكن أن نضيف لأسئلة حبش عشرات الأسئلة الأخرى عن تجربة صين ماوتسونغ في التطبيق الاشتراكي أو ما جرى ويجري في بعض التجارب الاشتراكية ، ومواقف اليسار العربي منها التي جعلت بعض قياداته لاحقاً عرضة لاتهامات كبيرة وخطيرة حتى من جزء غير قليل من كوادره وقواعده، ومنحت مناوئيه فرصة "الكسب" بالاستفادة من إخفاقاته وإصرار بعض رموزه على عدم حسم موقفهم من قضايا حساسة كالقضية الفلسطينية والأنظمة الاستبدادية التي غلفت ممارساتها ببراقع التقدمية والاشتراكية التي عرضت اليسار إلى اهتزازات كبيرة ، وغيرها من القضايا الحساسة التي وقفت منها قوى اليسار مواقف لا تتناسب والنظرة العلمية الدقيقة بحجج لم تستوعبها غالبية الجماهير المسحوقة والمعلقة آمالها على مواقف واضحة من بينها انجاز المرحلة الوطنية الديمقراطية في عدد من الدول، وكانت النتيجة أن الأنظمة ابتعدت عن أي فهم وطني وديمقراطي، ويمكن مراجعة مواقف بعض تيارات اليسار منذ الستينات والسبعينات لمعرفة مدى ما سببته من هزات في أوساط القاعدة الشعبية العريضة. قد تبدو إثارة مثل هذه المواضيع نوعا من "البطر" أو ما يسمى الترف الفكري في ظل الدعوات الشائعة عن انتهاء وقت "الأيدلوجيات" متجاهلين أن العولمة بحد ذاتها كمفهوم ودعوة تستند إلى تنظير مفكرين روجوا لفكرتها ما يعني أنها لا تخلو من الادلجة ، في عصر المتغيرات والتطورات المتسارعة والهائلة في المعلوماتية .. كما أن هذا البعض يقفز من حيث يدري أم لا على حقيقة أن تفسير أية ظاهرة في الحياة يحتاج إلى تحليل ودراسات ونظريات، وان كل شيء تقريباً لابد أن يستند الى نظرية ، وهذا بحد ذاته مدعاة لوقفة معمقة لمسيرة اليسار العربي علها توصلنا إلى خيوط لمعرفة أسباب ما يبدو ظاهرياً عزوفاً عنه وتراجعاً عن الإيمان بمنطلقاته ومبادئه ، لكنه في حقيقة الامر استسلاماًً لواقع معقد ومربك ومحبط ، خاصة في وسط الطلبة والشباب في محيطنا العربي المثقل بالهموم والمرارة سواء في دول الثراء أم في غيرها، وفي كلتا الحالتين تتحمل أحزاب اليسار بتنوعاتها الشيوعية والقومية جزءاً كبيراً من مسؤولية ذلك، عندما ارتضت أن تتماهى مع الأنظمة الاستبدادية وتبرر لنفسها السكوت عن انحرافاتها بضرورات المرحلة. لسنا هنا في معرض تعداد أسماء الأحزاب التي مثلت اليسار العربي غير أن هذا لا يعفينا من قراءة سريعة لمسيرته في التاريخ الحديث وتحديداً منذ ثلاثينات القرن الماضي، التي يمكن من خلالها التوصل إلى نمطين لرموز هذا التيار كأحزاب وشخصيات الأول في الدول التي حصلت فيها انقلابات عسكرية وخصوصاً في العراق وسوريا ومصر ثم اليمن وليبيا لاحقاً حيث انساق عدد غير قليل منها لطروحات هذه الأنظمة وزكت بهذا الشكل أو ذاك ممارساتها القمعية وكانت في الغالب ذيل لهذه الأنظمة رغم ما وجهته من ضربات قاصمة لرموز هذا التيار ومارست بحقه ما لم تجرؤ عليه اشد الأنظمة رجعيةًًًًًًً في مصطلحات ذلك الوقت، أما الثاني فهو التيار الذي كان يمارس أنشطته وفعالياته في الدول الأخرى التي لم تشهد عمليات تغيير بواسطة العسكر وتراوحت أنظمتها بين ما يمكن تسميته بالمحافظة كالمغرب وتونس الحبيب بورقيبة والأردن ولبنان والسعودية وبقية دول الخليج وأخرى مما يندرج تحت يافطة الأنظمة "التقدمية " كالجزائر ، وكان دور اليسار، فيها متفاوتا بين حركات ناشطة وفاعلة وقاعدة شعبية لا يستهان بها كما في الأردن والمغرب وتونس في حين أنها ضعيفة نوعاً ما وتقتصر على مجاميع مثقفة وقواعد شعبية بسيطة كما في السعودية ودول الخليج الأخرى، لأسباب موضوعية، ومع ذلك فقد كان يحسب لها ألف حساب من قبل الطبقات الحاكمة ، لكنها جميعاً وبهذا الشكل أو ذاك ظلت رهينة الانسياق لمواقف بعيدة عن واقع وحاجات المجتمعات وفشلت من حيث التكتيك والإستراتيجية في رسم ملامح نظرية واقعية تستجيب للواقع بل أن طابع الخلاف والتشتت والاحتراب والفرقة هو الذي كان سائداً ما ضاعف من أزمة اليسار العربي، يدلل عليه عدم قدرتها على رسم صورة مستقلة أمام شعوب تلك الدول عن التبني الأعمى لطروحات السوفيت آنذاك الحزبية والرسمية لتجنب نفسها تهمة حالة التبعية للروس التي ضخمتها مختلف الأنظمة واستخدمتها كسلاح لتوجيه ضرباتها إلى اليسار والأهم من ذلك زرع بذور الشك عن وطنيتها في أوساط الناس، ناهيك عن انجرارها لمعارك جانبية كانت هي في
اليسار العربي إخفاقات أم تحديات عجز عن مواجهتها؟
نشر في: 13 فبراير, 2012: 08:35 م