علي حسين اتذكر اننا كنا في الماضي نقرأ أعمدة صحفية تقطرعذوبة وإحساساً، حيث كان الجميع متمسكاً برومانسية حالمة في زمن مشحون بالحمم الكتابية، أما اليوم، فلا صوت يعلو فوق صوت الفساد والارهاب والمحسوبية والرشوة والانتهازية والفوضى السياسية والامنية وأخطاء الاحزاب واللاأحزاب
وأتساءل: كيف يمكن للواحد منا أن يهرب من كل هذا الذي يحاصره؟ كيف ينعزل ليكتب بعد ذلك كلمات رقيقة؟ كيف للواحد منا ان يغازل الكلمات على شواطئ انهار جفت بسبب تعنت وطغيان دول الجوار؟وهل لو فعلتُ ذلك، وانسحبت من وجع الوطن النازف الى داخل ذاتي، إلى لغة ترضي المسؤولين وتروي عطش البعض لكلمات المديح، هل أكون خائنا، حين ألون الكلمات وأزوقها في زمن اصبح فيه لون الدم هو الطاغي؟يثير قلقي، كما يثير قلق الكثيرين غيري، قدرة بعض الذين يمسكون بالقلم ليسطروا مقالاً دون حماس حقيقي، دون انفعال يأمل في (رد فعل) لانه بعيد تماما عن الفعل وعن التأثير وعن الاهمية.في الساحة، وفي اكثر من مكان، مقالات متهاوية، وكتابات بالية، المهم هو التوقيع ثم التبختر ثم المكافأة، وليذهب المواطن الى الجحيم.كتابات باردة، وصفحات اكثر برودة، كتابات ينسى اصحابها المعارك الوحشية اليومية التي يواجهها الناس لتوفير متطلبات الحياة الضرورية، يتناسون انهم يكتبون لبشر يبحثون عن حلول حقيقية لاعن (ترف) لا معنى له. ادرك كما يدرك العديد من الزملاء ان الاعلام الحر يمثل هاجسا مقلقا لاي مسؤول حتى لو كان نزيها، فما بالك ونحن نعيش وسط غابة مليئة بالمسؤولين الفاسدين والفاشلين، الكثير منهم لم يتعود على الجدل والمناقشة، تربوا على فكرة السمع والطاعة، وبالتالي فمن المنطقي أن ينزعجوا من أي نقد، حتى لو كان حقيقيا، دائما ما نراهم يتهمون وسائل الاعلام باثارة الفوضى وتهويل الامور حتى ان مسؤولا كبيرا رد على إحدى كتاباتي ذات يوم بعبارة " اتق الله في هذا الشعب" ولم افهم وقتها لماذا يطلب مني انا الذي لا حول لي ولا قوة ان اخشى الله في الناس فيما لم يطلب من الحكومة ان تتقي مخافة الله في كل شيء.المواطن يعرف قبل غيره أن ما نكتب عنه ونكشفه هو اقل بكثير مما يدور في غرف السياسيين المغلقة، لأن الخطر اكبر من تصوراتنا والخراب أعم وأشمل، ولا يعرف أحد على وجه الدقة حجمه وأبعاده، خصوصًا أن هناك جهات سياسية تسعى " لملمة" كل شيء، حالة الخراب السياسي اليوم تزيد من انتشار ظاهرة (الفهلوة) السياسية، واعرف جيدا أننا كصحفيين نؤذن في مالطة ونحن نواجه سياسيين مصابين بالفساد والعطب، واعرف ان البعض ممن دخل السياسة يستحقون الرمي في البحر الميت. فمنذ أن دخلت عبارة "الديمقراطية" قاموس الحياة العراقية اليومية شاعت كلمات مثل المحسوبية والانتهازية آلاف المرات ونفذت الجهات السياسية عمليات إعدام بالجملة لكل مفاهيم الديمقراطية الحقيقية في إطار سياسة تجفيف منابع الخطر، بل إن من التشريعات الحكومية ما يجرم كل من يطلق صرخة غضب ضد الفاسدين والمدلسين والمزورين.للأسف لم أكن أعلم حتى هذه اللحظة أن الاقتراب من السياسيين والمسؤولين مسألة في غاية الحساسية على هذا النحو، كما لم أكن أتصور أن العراق الذي يقول الجميع انه منارة للديمقراطية في المنطقة، يمكن أن يضم مسؤولين يحتقرون الصحافة إلى الحد الذي يدفعهم لإعلان الحرب عليها، ولم أكن اعلم أن حالة الهلع يمكن أن تصيب سياسيين كبارا لمجرد مقال، فيما لم يرف لهم جفن وهم يشاهدون الخراب في كل مكان.بالتاكيد أنا لست سعيدا بما أنا فيه، فالعالم يحتفل بعيد الحب وانا اسطر الكلمات في هجاء الساسة، ليس أمامي إلا الدعاء على من سرق منا بهجة الفرح وراحة البال، وأحال أيامنا الى سلسلة متواصلة من الفواجع، فحرم الكلمات من أن تكون مصدر سعادة وفرح للكاتب والقارئ.
العمود الثامن: أنا.. وتقوى الحكومة
نشر في: 13 فبراير, 2012: 10:53 م