أحمد عبد الحسين أمر مفجع أنْ تمرّ أنباء تلوّث نهر الحسينيّة في كربلاء مرور الكرام، أن نتصفّح أخباراً تؤكد أن النهر مبطن بتربة فيها موادّ مشعة "اليورانيوم تحديداً"، ونقرأها كما نقرأ آخر أخبار الفنانين، أن نعرف أن حالات الإصابة بالسرطان تضاعفتْ هناك ونقلب الصفحة لنقرأ خبراً آخر.
أشدّ هولاً من الكارثة عدم الاكتراث بالكوارث. لكنْ يبدو أن كثرة المصائب دوّخت العراقيين فلم يعد بمقدورهم التوّقف عند إحداها لمعالجتها أو حتى للتساؤل عنها، ربما أصابنا ما اصاب الشاعر الجاهليّ "خُراش" الذي ذهب للصيد ورجع خائباً خالي الوفاض لسبب وجيه دوّنه في بيت شعر:تكاثرت الظباءُ على خُراشفما يدري خراش ما يصيدُالدنيا أمطرتْ على العراقيّ فواجعها دفعة واحدة فأصبح لكثرتها وقسوتها غير مبالٍ بما يحدث له، إنه اليأس الذي قالتْ عنه العرب قديماً إنه إحدى الراحتين، وإلا فكيف يمكن الصمت أمام حيقيقة أن حالات الإصابة بالسرطان في عموم العراق تضاعفتْ ستّ مرات منذ 1999 ، كيف يمكن لنا أن نستسيغ معرفة أن نهراً يسقي ملايين الناس قد لوثناه حين قمنا بتبطينه بترابٍ تكثر فيه ـ إضافة إلى اليورانيوم ـ مادتا الرصاص والنيكل، وكلّ واحدة من هذه المواد كفيلة ليس بلقتل الإنسان فحسب، بل تشويه مواليده ومواليد مواليده لأجيال قادمة.هل يكفي أن تتمّ إقالة الرجل الذي قيل انه مسؤول عن هذه المأساة؟ أم لعلّه أقيل بسبب تصريحه بوجود تلوّث في النهر؟ هل سيحاسب؟ متى وكيف ومن سيحاسبه؟ هل في الأمر فساد كما قال البعض، باعتبار ان التربة التي بُطّن بها النهر كانت قريبة وغير مكلفة، فمن أجل توفير بضعة آلاف من الدولارات لشخصه الكريم نرتضي أن يُسرطَن أبناؤنا وأحفادنا.محافظ كربلاء قال انه أقال المسؤول عن سرطنة العراقيين، ردّة فعل الحكومتين ـ المركزية والمحلية ـ مضحكة، تبريرات وغمغمة بكلامٍ وهذر متواصل عن لجان ستفتح، لا بل ان البعض ولكي يشعر براحة ضمير ويوقف تأنيب ضميره "الذي لم يضمر تماماً بعدُ" شكك بالأمر كله، فلا سرطان ولا هم يحزنون، البعض الآخر قلبها سياسيّاً مواصلاً نشيده الأزليّ الذي لا يتقن غيره ملقياً باللائمة على الاحتلال الذي سرطننا وغادر. بين أيدينا شهود جريمة ومتهم وضحية لكنْ أسهل علينا أن نلقي بالتهمة على هارب لا نستطيع إمساكه ونريح ونرتاح.يوم الأربعاء الفائت نشرت المدى وثيقة موقعة من قبل كلّ من وكيل وزارة البيئة ومحافظ كربلاء ورئيس جمعية البيئة العراقية وآخرين تثبتْ أنْ لا تلوّث في نهر الحسينيّة، لكنْ في نفس الخبر الذي نشرته المدى كلام لمواطنين يشككون بصحة هذه الوثيقة، ويضعون المسؤولين أمام أحد أمرين: إما ان الحكومة تتستر على جريمة بشعة، أو انها أرعبت الناس بلا سبب. ومع هذا الإنكار إلا ان الحكومة المحليّة أوقفت تدفّق النهر، ربما بعد فوات الأوان، بعد أن شرب منه الملايين، وتخيّلوا معي ان زوّار عاشوراء والأربعينيّة الذين يقدّر عددهم مجتمعين بعشرين مليون زائر كلهم قد شربوا ماء الرصاص والنيكل واليورانيوم الذي سقاه لهم شخص مستعدّ أن يسرطن العالم كله من أجل آلاف الدولارات.في هاتين الزيارتين تحذرنا الجهات الأمنية دائماً من إرهابيين يتخفون بزيّ زوار أتقياء يوزعون ماء وأكلاً ساماً على الزائرين، ولم يحذرنا أحد من رسميين أتقياء بأيادِ متوضئة وجباه موشومة بتاتو مقدّس يسقوننا السمّ كل آن.لم نعد نكترث بالكارثة. ولماذا نكترث؟ أيها الأتقياء الأنقياء لقد سممتم حياتنا كلها، وسرطنتم الهواء الذي نتنفّس.
قرطاس :سرطان الرافدين
نشر في: 17 فبراير, 2012: 10:16 م