عمر الجفّال عاملان أساسيان يحددان المزاج الانتخابي الفرنسي، ويبدو بوضوح تام أن الصراع بينهما سيحدِّد ملامح رجل الإليزيه المقبل، العامل الأوّل هو الخبرة في قيادة الأزمات، وهو ما قد يعيد نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه في فترة رئاسية ثانية، متعكزاً على ما حققه من استعادة دور فرنسا الدولي وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تجيَّر لساركوزي عملية الإطاحة السريعة بنظام العقيد الليبي معمر القذافي،
إضافة إلى تدخله القوي في ملف الأزمة السورية، حيث أعتبره بعض الفرنسيين بطلاً قومياً مناصراً لشعوب المنطقة وحقوق الإنسان، إلا أن استطلاعات الرأي تجمع على أن ساركوزي هو أكثر رئيس لم يحبه الشعب الفرنسي على خلفية الفضائح المتتالية التي رافقت فترة رئاسته الأولى منذ بدايتها.أما العامل الثاني الذي سيحدِّد بوصلة المزاج الانتخابي للشعب الفرنسي فهو التغيير الذي ينشده الفرنسيون لاسيما فيما يتعلّق بالملفات الداخلية الشائكة التي تفاقمت خلال فترة رئاسة ساركوزي، حيث معدَّل البطالة يرتفع إلى مستويات لم يبلغها منذ 12 سنة، ولا يحظى برنامج إصلاح المعاشات التقاعدية بأي تأييد شعبي، إضافة إلى ما تواجهه منطقة اليورو من وضع مزر، ويصب هذا العامل في مصلحة المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند الذي يصفه بعض أعلام اليسار بمرشح الأمل، خاصة وأن هولاند ذا الثقافة الرفيعة يعيد إلى الأذهان صورة الرؤساء الفرنسيين الذين يفاخر الشعب بثقافتهم العالية وخاصة الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران، الذي كان يعدّ رئيساً للنخبة الفرنسية، واستطاع بحنكته السياسية التعايش مع رئيس وزراء يميني هو جاك شيراك، في فترة أعتبرها المراقبون امتحاناً عسيراً للديمقراطية الفرنسية، وهو أمر ترشحه مجمل استطلاعات الرأي حتى الآن.روجر كوهين محرر النيويورك تايمز الذي زار فرنسا مؤخراً، يصف هولاند بـ(ذلك الرجل اللائق الذي قصد جامعات النخبة) والذي يتمتع بالجاذبية وحس الفكاهة ولكنه لم يفعل شيئاً لتبديد الفكرة القائلة إنه لا يجيد التعامل مع الأزمات، ويأخذ عليه استعماله عبارة (رجل قذر) خلال حديثه عن ساركوزي، لكنه يتدارك بالقول (إن تلك اللهجة عكست ما يفكر به والجو العام السائد في أوساط الطبقة البرجوازية الفرنسية). وبالنسبة إلى هذه الفئة من الناس فإن ساركوزي هو الرجل الذي قصد جامعات لا تليق بمستواهم وهو سيبقى دخيلاً ووضيعاً بنظرهم -بمعنى أنه متسلق اجتماعي "قذر" تُعميه الطموحات الشخصية ولا يستحق تمثيل الدولة الفرنسية عبر تولي أعلى منصب في الجمهورية الخامسة-. يريد الكثيرون في فرنسا التخلص من ساركوزي، فهم يحلمون بمعاقبة هذا الرجل الحيوي على نحو مزعج لكن سرعان ما يفكرون: "لكن لا! لا نريد اليساريين المترددين وشعاراتهم الفارغة و"جمودهم" الهائل الذي جعلهم يحتفظون بمبدأ الصراع الطبقي كإيديولوجيا أساسية مع أن معظم اليساريين الأوروبيين "مثل الألمان" تخطوا هذه المسألة منذ عقود".إن أكبر إنجاز حققه ساركوزي تعلق بموقف ألمانيا من أزمة اليورو، فقد وقعت الأزمة بينما كانت ألمانيا تبتعد عن نزعة "المثالية الأوروبية" بعد أن تعبت من الجهود المالية الرامية إلى توحيد أوروبا، وغضبت من الاستغلاليين في منطقة المتوسط، وأصبحت مكتفية بتوبتها بعد الحرب وتميل إلى التركيز على كسب الأرباح المادية أكثر من تبني القضايا الأخلاقية العظمى.ساركوزي سيوظف هذه الانجازات في دعايته الانتخابية إلى أقصى حدّ من أجل البقاء في قصر الإليزيه لفترة رئاسية ثانية، أما خسارته فإنها ستشكل صدمة لليمين الفرنسي، لكنها صدمة متوقعة في كل الأحوال، أما اليسار الفرنسي الذي لم يصل إلى الرئاسة منذ أن تنحى فرانسوا ميتران قبل 17 عاماً، يعد لانتخابات حاسمة ستكون خسارتها مؤلمة، لكن هذه الخسارة محتملة أيضاً، وفقا لما سيكون عليه المزاج الانتخابي الفرنسي الموزع بين القيادة و.. التغيير.
انتخابات فرنسا بين "قذارة" وثقافة
نشر في: 19 فبراير, 2012: 10:25 م