علي حسينكانت تحقيقاته الصحفية، الوجه الآخر لسيرته الواثقة وقناعاته الراسخة وإيمانه العميق بالنهايات المنتصرة لقيم التغيير والثورة والعدالة الاجتماعية، لذلك كان انتوني شديد ينظر باستخفاف لتلك الأخطار التي نبهه لها بعض الاصدقاء المتمثلة في كشف الانتهاكات ضد الانسان فقد ظل شديد يؤكد ضرورة محاربتها لان الحياة مع المستقبل قائلا:
"كان على الصحفيين من أمثالي، الذين أمضوا السنوات الطوال في خدمة صحف إخبارية محترمة، التصدي، ومنذ وقت ليس ببعيد، لحقيقة أننا، وفي عيون الكثيرين، لم نعد أكثر من تابعين، معصوبة عيونهم، لإعلام«الاتجاه السائد» الذي أصبح يشار إليه، وعلى نطاق واسع"، لقد ادرك على نحو مبكر ان الصحفي الحقيقي هو الذي يجب ان يدافع عن الانسان الحر، كان الإيمان بالانسان وحريته يتخلق تدريجيا في وعي انتوني وبسبب شغفه بقضايا الناس التي تفرغ لها والتي أغوته بإمكانية إنطاق الكثير من المسكوت والوصول من خلالهم الى عالم جديد، عالم المحرومين والمهمشين المرة الأخيرة التي قرأت فيها لانتوني شديد عن العراق الذي احبه وعشقه كان تحقيقا مثيرا عن الطبقة السياسية العراقية وفيه قدم لنا باسلوبه الادبي الجميل حكاية قادة العراق الذين لا يزالون يعيشون بعقلية المعارضة حيث لغة التآمر والخوف من الانقلابات والتخوين والتشكيك بنوايا الاخر جزء من تفكيرهم اليومي. كل الذين كتبوا عن انتوني شديد لم يكونوا يتصورون ان الرجل الذي اصيب بالرصاص في الضفة الغربية عام 2002 والذي رفض ان يغادر بغداد عام 2003 وظل يتجول تحت القصف الامريكي ملتصقا بالناس ناسجا حكاياتهم والذي اختطفته قوات القذافي ستنتهي حياته المليئة بالحكايات بأزمة ربو على الحدود السورية التي دخلها متخفيا حيث كان يأمل بلقاء السوريين ونقل معاناتهم للعالم يكتب شديد " على الصحفيين اليوم التأكد من أننا لم نعد تابعين لإعلام السلطات الحاكمة". لم تكن الكتابة الصحفية بالنسبة لانتوني شديد مجرد موهبة بل حرفة بامكان الانسان تعلمها، فبعد ان درس الجماعات الاسلامية قرر ان يدخل عالم الصحافة من بابه الحقيقي محررا للاخبار، حيث اكتسب خبرة ميدانية ضرورية ليصبح صحفيا حقيقيا، في عالم الاخبار اكتشف حقيقة ما يجري في كواليس السياسة التي دائما ما تغلف بستار براق لامع. يؤمن شديد بما قاله معلم المراسلين الصحفيين همنغواي يوما "دع الناس وحدهم يتكلمون" ومن خلال هذه المقولة تعلم انتوني كيف يكتب القصص الصحفية حيث حاول ان ينقل احاديث الناس وحركاتهم ونظراتهم، والاهم ان يصف دواخلهم، ومن خلال اسلوب رشيق بعيدا عن الجمل المزوقة فهو يكتب ما يحسه ويراه بافضل وابسط اسلوب حيث اتضح له مع مرور الايام والتجارب والبلدان التي غطى احداثها ان الكتابة يمكن لها أن تصبح كالرسم. في كتابه المثير للدهشة.. اقترب الليل: شعب العراق في ظل الحرب الامريكية، يكتب شديد هذا الوصف لبلاد عانت من عقود من الدكتاتورية والحروب والاستبداد: " هنا كان بلد من حيوات.. لكنها توقفت. مثلها مثل العراق كانت كريمة - أرملة وأم لثمانية - عانت لعشرين عاما من الحروب والعقوبات، والديكتاتورية. حين دنا الليل في بغداد، وبدأت القنابل تسقط مجددا، اصطحبت كريمة ابنها المراهق إلى المحطة ليركب حافلة متهالكة تقله إلى الموصل كي ينضم، على مضض، إلى جيش صدام، وودعته قائلة له: (الله يحميك)، وبيد مرتعشة وضعت في جيبه أجرة الحافلة التي بالكاد تملكها" وعلى مدى سبعة عشر عاما استمر شديد في صدماته للقراء وفى اصطياده للجوائز الصحفية (أكثر من6 جوائز من أهم الجوائز الصحفية بما في ذلك جائزة بوليتزر مرتين كما نشر كتبا هامة مثل: - قصة نبي: الطغاة والديمقراطيون وسياسات الإسلام الجديدة، - اقترب الليل: شعب العراق في ظل الحرب الامريكية. - بيت من حجر: سيرة موطن وعائلة وشرق أوسط ضائع. قبل أعوام قال شديد: "مازال أمام الصحفيين قصص عظيمة. ولكن المشكلة أن البعض يريد منا ترك المجال لآخرين يحبون حضور الحفلات والكتابة في الغرف المكيفة".ترك شديد دفاتره وأقلامه، وجهاز اللابتوب وكاميرته، وكذلك أدويته التي رافقته في أسفاره ومهماته المحفوفة بالأخطار، نائما على امجاد مهنته وصدقه ومهنيته التي جعلت منه أشبه بباحث معلومات ومشاهدات وشهادات لما آل اليه حال العرب، قصص اراد ان تروي ظمأ قرائه الذين كانوا يتابعونه كل يوم، لم يكن يخاف من الرصاص المنهمر من كل صوب، ولم يسقط صريع لغم زرعه جنود فارون، لكنه سقط، لأن أدويته التي في حوزته لم تسعفه في نوبته الشديدة التي ضربته وهو بين الجبال في الطريق الى سوريا، تاركاً طفلة في العاشرة وصبياً لم يبلغ ربيعه الأول، وحكايات تروي شغف المهنة، شغفٌ اختصره بجملة بسيطة قالها قبل ايام من موته: " شعرت بأن سوريا بالغة الأهمية، وأنه ما من طريقة أخرى لرواية قصتها، وأنها تستحق المجازفة " مثلما شعر عام 2003 بأن بغداد تستحق المجازفة فرفض ان يغادرها رغم التحذيرات وظل وسط القنابل وقذائف الطائرات عن
أنتوني شديد.. حكاية رجل شجاع
نشر في: 22 فبراير, 2012: 09:39 م