بغداد/ يوسف المحمداويبعد أن غادرها منذ ثمانينات القرن الماضي، عاد محمود من منفاه في باريس إلى مدينته بغداد، كان يحلم وهو على متن الطائرة بتلك المدينة المترفة التي كانت يوما من الأيام قبلة العلم والفن والحضارة. ترك نهر السين عائدا باتجاه دجلته وهو يقول هناك النوارس أجمل على ضفافها في الصباح، مقاهي ونوادي أبي نؤاس وهي تحتضن مطاعم السمك المسكوف في ذاكرته أجمل من شارع الشانزليه بكل ترفه،
ترجّل عن صهوة برج إيفل ليعود بكل شوق باتجاه ملوية سامراء التي شيدها المهندس العراقي الأرمني دليل يعقوب لتكون أعلى بناء معماري في العالم أيام الخلافة العباسية، ودّع الموسيقى التي تعزفها الفرق التي تملأ ساحات وحدائق باريس ليطرب على موسيقى الجالغي في المتحف البغدادي، ترك مدينة النور من اجل مدينته الشمس، دمعت عيناه حين أعلن طاقم الطائرة وصولها إلى بغداد. كان الوقت ظهرا والشتاء الشباطي ينفخ بردا، لم يتفاجأ بالبرد قدر ذهوله بالأتربة التي ملأت المدينة التي كانت تتباهى بنقاوة هوائها وحلاوة أجوائها وتذكر كلمات والدته عنها حين كانت تقول "هوه بغداد يمه يرد الروح"،استقل إحدى سيارات الأجرة التي توجهت به نحو عشيقته بغداد، تجاوزت السيارة ساحة عباس بن فرناس ليتجاوز محمود قمة الذهول، وبين لحظة وأخرى يسأل السائق: معقولة هذه بغداد؟، ويردد مع نفسه: مستحيل _مستحيل، والسائق الموجع والممتلئ غيضا من تخمة الأزمات التي يعيشها البلد يرد عليه وكأنه يثيره "بعدك اششايف من الخراب؟". رأى طوابير السيارات وهي تقف منتظرة رحمة السيطرات، دهش بالحواجز الكونكريتية وهي تقطع أوصال مدينته، توجّه صوب حي المنصور فوجده مكسور الخاطر يبكي على شارع أميراته الذي امتلأ الآن بعشرات الباعة المتجولين فضلا عن المتسولين ومكبات القاذورات أصبحت زينة أجمل وأنظف شوارع بغداد ، وصل داره بعد جهد جهيد لأن المدينة التي كانت في ذاكرته غير هذه التي يراها، فملامح معالمها تغيرت وترفها القديم تحول إلى ادقاع في كل شيء، لم يتمالك نفسه ويمنعها من البكاء مع أول خطوة في الدار، استقبله الأهل بالشكوى والتذمر مما تعيشه المنكوبة بغداد، وبعد استذكار الماضي غطّ محمود في نوم عميق ليصحو مبكرا ويتجه ليذرع شوارع بغداد كالسعدون وأبي نؤاس والرشيد عله يجد فيها ما يسر، لكنه جلس بساحتي الكآبة والإحباط بعد أن رأى مدينة العلم والفن تحولت إلى مدينة الجهل والحزن، لا مسارح فيها، وصالات السينما تحول بعضها إلى مذاخر ومخازن،لا نوادي أبي نؤاس ولا حفلاته العائلية، لا عشق ولا عاشقين، مدينة تزينها لافتات المهاجرين باتجاه القبور، الفتيات لم يعدن يتناولن الحديث مع المحبين على باب مطعم أو في ناد ما، لأن الحب حرام في نظر من أعادوا بغداد نحو العصور المظلمة.لم يتمالك محمود أعصابه، حجز في إحدى مكاتب الطيران الموجودة في شارع السعدون ليعود إلى باريس ملتفتا باتجاه بغداد قائلا: هذه ليست مدينتي.
مغترب عائد إلى بغداد: هذه ليست مدينتي
نشر في: 22 فبراير, 2012: 11:17 م