TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية:رحيل رمزٍمتألق من زمن التوهج:سالم عبيد النعمان وطنيٌ تماهى مع الحلم ..

الافتتاحية:رحيل رمزٍمتألق من زمن التوهج:سالم عبيد النعمان وطنيٌ تماهى مع الحلم ..

نشر في: 23 فبراير, 2012: 11:21 م

 فخري كريم

لأن الحكم الملكي المؤَسّس بإرادة الانتداب البريطاني على قاعدة طائفية تلغي المواطنة الحرة المتساوية، اختلطت الانتماءات الفكرية والسياسية من وجهة نظر النظام الملكي

فأفردت مادة واحدة لملاحقة جميع الأحزاب والتنظيمات والقوى الوطنية ونشاطاتها السياسية والنقابية والصحفية تحت تهمة " مكافحة الشيوعية " دون أن تميز آنذاك بين معتقلٍ منتمٍ للحزب الوطني الديمقراطي او حزب الاستقلال او الحزب الشيوعي،

 دون استثناء البعثيين . لكن التمييز كان يطاول أساليب التعذيب التي تمارس ضد كل فئة أو شدة  الاعتقال أو مدة الحكم والسجون التي تخصص لها .

وقد فهم الانكليز وأعوانهم من رهط نوري السعيد وبهجة العطية أن العراقيين موحدون في مواجهتهم، لا تفرقهم العصبيات المذهبية كما العشائرية والدينية والقومية، يجمعهم الكفاح المشترك في سبيل الانعتاق والتحرر الوطني والتطور الاجتماعي والاقتصادي والتوق لبناء نظام ديمقراطي ودولة مدنية مؤسساتية .

في تلك المرحلة النضالية المجيدة من تاريخ العراق ، كانت مدن " عنه " و " هيت " و " راوه " وحديثه " مراكز إشعاع سياسي وفكري، مدَّت الحركة الوطنية بكل روافدها بكوادر بارزة، أصبحت علامات مضيئة على طريق النضال الوطني والديمقراطي، واحتلت مواقع قيادية في الأحزاب والنقابات والمنظمات الاجتماعية والثقافية وفي حركة السلام وغيرها من الأطر التي كان لها دور فاعل في إنهاء الحكم الملكي وفي المراحل التي تبعتها.

ومن مشهد تلك الأيام الخالدة، تطل علينا أسماء ملأت دنيانا بقيم الوطنية الحقة والمبادئ الإنسانية التي تجاوزت كل العصبيات والانتماءات الثانوية، ولم تكن لتلك الأسماء معانٍ أو رموز طائفية أو ما يشوب هويتها الوطنية، بل لم يكن في التقاليد المتعارفة التساؤل عن ذلك أو الاهتمام بتعريف تلك الرموز بأصولها الثانوية. كما لم يكن خارج السياق تقديم شخصية سياسية من المدن الغربية " سنيٌ " بالتعريف الشائن الدارج اليوم ، في كربلاء أو النجف ، والعكس صحيح أيضاً ، أو شخصيات كردية من المدن الكردستانية في المحافظات العربية .

في تلك الأيام التي كان " أشباه الرجال " فيها يصطفون مع النظام الملكي ويغذون نعراته المذمومة، كما يفعل أحفادهم اليوم من مروجي النعرات الطائفية والمذهبية والعشائرية والمناطقية، كان " العيب " أن تدعي أي انتماء غير الانتماء إلى الحركة الوطنية والانحياز إلى شعاراتها الديمقراطية وولائها للتحرر والتقدم والقيم الإنسانية الرفيعة .

في زمن الوطنية والقيم الإنسانية، برز اسم سالم عبيد النعمان من عائلة متوسطة، عرفت بوطنيتها في مدينة عنه، ومن تلك المدينة انتقل مع أسماء لامعة في سماء الحركة الوطنية إلى بغداد ، وبالمصادفة أو الميل إلى ميدان يتسم بالدفاع عن العدالة المفقودة انضم إلى كلية الحقوق، كما فعل عزيز شريف وعامر عبد الله وتوفيق منير وعبد الرحيم شريف أبناء مدينته، والتقى مع أبناء آخرين للمدينة في إطار الحركة الوطنية، ثابت حبيب العاني وعزيز الشيخ وشريف الشيخ والعشرات من الشخصيات المؤثرة التي أفرزتهم مدن لواء الدليم " الأنبار " تتلألأ بينهم نزيهة الدليمي مؤسسة الحركة النسائية العراقية وأول امرأة استوزرت في العالم العربي.

انضم سالم عبيد النعمان في وقت مبكر من حياته إلى الحزب الشيوعي العراقي ، وزامل الشهداء فهد وحازم وصارم في سجنهم الذي انتهى بهم إلى الإعدام ، ومنذ ذاك الحين لم يتراجع عن المثل والقيم التي تعلمها من انتمائه، فظل وفياً لها مشدوداً إلى نماذجها حتى اللحظة الأخيرة من حياته. ورغم بلوغه التسعين بقي نور اليقين الإنساني متوهجاً في كيانه يرى الأشياء والأحداث بمناظرها ، لا يحيد عنها أو يتسلل الشك إلى يقينه وإيمانه بالإنسان كقيمة لا تسمو عليها أي قيمة أخرى .

في سنوات المواجهة والقتل على الهوية، بقي محجوزاً في بيته مع أبنائه وأفراد عائلته الذين تخلقوا بقيمه، دون أن يرف له جفن أو يتسلل الخوف إلى قلبه، بل كان مهموماً وقلقاً على الناس الذين يطاولهم الموت دون ذنب أو حتى انتماء سياسي سوى الهوية المذهبية .

كان سالم عبيد النعمان ابن " عنه " غريباً عن أولئك الذين يبشرون بالانتماء الفرعي المذهبي، ويرى في ذلك انحداراً وانحطاطاً وانسلاخاً عن الكينونة الإنسانية الرفيعة. ورغم الحجز الاحترازي في بيته تجنباً للتعرض لخطر التكفيريين و أعباء السنين التي أرهقت كاهله المتعب، وهو الذي ذاق مرارة السجن والتعديات والملاحقات، فقد بقيت ذاكرته متوقدةً أنتجت وهو على مشارف التسعين كتابين تاريخيين تسجيليين، يضعان أمام هذا الجيل المغيب عن أنوار المراحل الوطنية التأسيسية ومضات فكره وقيمه وعطائه الوطني النيّر، التي تعكس أفكار وقيم ذاك الزمان الذي خلق بتضحيات أبنائه ممكنات الانفتاح على الأمل بعالم جديد تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة والرفاه والحرية..عالم تغيب منه كل الترهات التي أنتجتها وتعيد إنتاجها كل يوم ممالك الطوائف ومروجو مسلسلات الأزمات والفتن الطائفية ويلتاع في أتون صراعاتها على نهب المال العام والإفقار وإشاعة قيم التحريم وتابوات التخلف والفساد ملايين العراقيين من كل الطوائف والملل.

رحل سالم عبيد النعمان دون ان ينسى تأكيد هويته الوطنية، في زمن سيادة الهويات الفرعية المقيتة، وهو على فراش الموت ليوصي أبناءه البررة بدفنه في كردستان، كإعلان عن ترسيخ ملامح هويته الوطنية المتعالية على النزعات الموغلة في التجني..

برحيله لن تنطفئ روح ذلك العصر الوطني المهيب.. بل ترتقي بنا قيم ذلك العصر إلى عالم منشود إنساني الومضات ، لتظل منارتها تهدي أجيالا أكثر مضاءً وتحدياً وتمسكاً بالجمال والحقيقة والعدالة ..

وداعاً أيها الطيف الآتي من زمن الحلم والأمل والوعد الذي لا يتراجع..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram