القبر الذي يحتوي على مجموعة من أجساد الموتى يسمى (قبرا جماعيا). وفي أحوال قليلة تكون هويات الموتى معروفة قبل الدفن في ذلك القبر الجماعي. أما في أكثر الأحيان، فيدفن بالقبر الجماعي عدد كبير من الموتى المجهولين الذين لم يعرف من دفنهم أو قتلهم أو لم يكترث للتحري عن أسمائهم. وليس ثمة إجماع واسع على الحد الأدنى لعدد الموتى المدفونين في القبر لكي يدعى (قبرا جماعيا). بيد انه يمكن اعتماد تعريف يستقيم مع المعنى اللغوي للجماعة : وهو اشتراط ان يحتوي القبر على ثلاثة أجساد او أكثر.
ولا يشترط ان يحتوي القبر الجماعي على ضحايا عمليات قتل او اعدام ، فقد تستدعي الضرورة دفن ضحايا الأوبئة والمجاعات والكوارث الطبيعية بصورة جماعية بسبب أهمية الإسراع في الدفن واختصار امد التقارب بين الأحياء والموتى لتلافي انتقال العدوى بخاصة في المناطق الحارة ، حيث تتعفن الأجساد بسرعة وتكثر الحشرات الناقلة للجراثيم كالذباب وغيرها. بيد أن العثور على عدد كبير من الموتى في قبر جماعي يثير الارتياب في وقوع جريمة من نوع او آخر، فيستدعي التحقق من ظروف وفاتهم ودفنهم ، لأنه غالبا ما يكونون ضحايا لجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
وفي حالة القبول الجماعية التي تحتوي على أجساد ضحايا الكوارث الطبيعية والمجاعات والأوبئة تكون مواقعها مسجلة في وثائق أو خرائط لكي يستدل من خلالها على أماكنها لاحقا، حيث لا مصلحة لأحد في إخفائها، خلافا لضحايا عمليات القتل الجماعي والإبادة العرقية الذين تكتنف السرية والغموض عملية دفنهم سواء من حيث المكان أو الزمان أو من حيث هويات الضحايا.
وقد يكون القبر الجماعي على هيئة حفرة في الأرض او بئر عميقة او مبنى منعزل او قاع بحر او بحيرة او نهر او واد جاف او مغارة او ارض منخفضة في الصحراء .
وكلما عثر على قبر جماعي يجب أن يتعامل معه وكأنه (مسرح جريمة)، ويكون على رأس سلم الأولويات ان يستعان بالخبراء في مثل هذه الأمور، ويعتبر الأطباء العدليون من أهم اولئك الخبراء ، ومن الأخطاء التي يمكن ان تحدث تعامل غير المختصين مع تلك القبور وما فيها من جثامين او عظام او بقايا أدمية ، فتضيع الأدلة وتتغير معالم مسرح الجريمة .
ويجب أن يتوفر لفريق الطب العدلي كافة المعلومات والبيانات المتعلقة بالمفقودين، وتواريخ اختفائهم او فقدانهم، وكافة الظروف المحيطة والملابسات التي قد تكون أسهمت في موتهم أو قتلهم .
ويتعين ان تبدأ مهمة الطبيب العدلي في ما يتعلق بالقبور الجماعية بمعاينة البقايا الآدمية في الموقع الأصلي بمجرد العثور عليها، وتوثيق عمله بالتصوير الرقمي او الفوتوغرافي. وتنقسم مهمته الفنية إلى ثلاثة أهداف رئيسة:
الهدف الأول يتجه الى التعرف على هوية الموتى، وهذه من أهم المعلومات التي تهم أقارب المفقودين بالدرجة الأولى، لانهاء حالة عدم الاستقرار النفسي التي يعيشونها لعدم معرفتهم بمصير أحبائهم، كما يترتب على التعرف إلى هوية المتوفى إصدار شهادة وفاة وما يتبعها من تقسيم التركة والعدة للزوجة وما إلى ذلك من مسائل شرعية وقانونية وإنسانية. ومن المسائل القانونية تحريك الدعوى الجنائية في جريمة القتل التي لا تثبت الا بجسم الجريمة والعلاقة السببية بين الجاني والمجني عليه. وتستخدم في سبيل التعرف إلى الهوية وسائل طبية ووسائل غير طبية. وتبدأ الوسائل الطبية بمضاهاة الجنس والعمر وطول الجسد والبنية والاسنان بالبيانات المماثلة المتوافرة حول المفقودين قبل وفاتهم. وتنتهي بمقارنة البصمة الوراثية للبقايا الآدمية مع البصمة الوراثية للأقارب المحتملين. اما الوسائل غير الطبية فتبدأ بالملابس والحلي والوثائق على جسم الموتى وتنتهي ببصمة الأصابع ان توفرت .
أما الهدف الثاني فيتجه الى تحديد سبب وكيفية الوفاة، وقد يتعذر ذلك اذا كان مضى على الوفاة مدة طويلة كفيلة بضياع معالم الإصابات او الأمراض التي تكون قد أدت الى الوفاة . بيد ان المظاهر الاصابية التي تلحق بالعظام تظل شاهدة على سبب الوفاة مثل وجود ثقوب الطلقات النارية أو الكسور، كما قد تبقى الأربطة والقيود شاهدة على ما حاق بالضحايا قبل وفاتهم.
ويتمثل الهدف الثالث في تحديد تاريخ الدفن وتاريخ وقت حدوث الوفاة من خلال معاينة القبر وفحص البقايا البشرية. وقد لا يكون التاريخان متماثلين، فقد يقتل إنسان ويحتفظ بجسده في مكان معين ثم ينقل ليدفن في مكان آخر بعد عدة سنوات. ويستخدم الكاربون المشع او (الكربون 14) لتحديد عمر العظام القديمة جدا، وذلك عن طريق الكشف عنه بطريقة فيزيائية خاصة، ويعتمد تحديد عمر العظام بهذه الطريقة على حقيقة أن الكربون المشع يفقد نصف إشعاعه بعد مضي فترة ثابتة مقدراها 5700 سنة على موت الكائن الحي، وبهذا يمكن عن طريق المضاهاة بأجسام معروفة العمر تبيان عمر العظام المراد فحصها.
فإذا تأكدنا من هوية الأجساد التي يضمها قبر جماعي معين ، وإذا توصلنا إلى سبب وكيفية وفاتهم ، وتبين لنا أنهم ضحايا عملية قتل جماعي أو فردي، وإذا حددنا الزمن الذي مضى على وفاته أو تاريخ تعرضهم للقتل، تكون بذلك قد تكاملت لدينا كل عناصر الجريمة، ولأمكن الربط بينها وبين القاتل المحتمل في ضوء الدوافع والزمان والمكان.