شاكر لعيبي لقد تطوَّر بحث دافيس بشكل منتظم رويداً رويداً مُسْتبعِداً العناصر التشخيصية، أي عناصر المدينة الحديثة التي انطلق بالأصل منها، لكي تتبقى ذكريات بناياتها شاخصة على هيئات غامضة، تحولّتْ كتلاً هندسية في نهاية المطاف، ثم لكي تتبقى من الكتابات الصريحة والجمل الأولى في أعلى بناياتها بعض الأحرف المتناثرة هنا وهناك،
هذه الحروف ستصير قاعدةً للوحةٍ حروفيةٍ إذا ما جازفنا بإطلاق هذه التسمية عليها من أجل المقاربة الحالية فحسب.لنر بدقة السياق الزمني المتتابع لهذا التطور الحثيث عبر نماذج واضحة:- عام 1927 يرسم دافيس مثلاً لوحةً، ضمن سلسلة أعماله المذكورة أعلاه، عنوانها (مخفقة بيض رقم1. no.1)، وفيها نستطيع ملاحظة انتقال أشكال المدينة الأمريكية إلى كتل هندسية ملوّنة طافية على خلفية لونٍ موحَّد منفصلة عنه (لاحظناً أن الكتل الهندسية اللونية الطافية على لون مُوحَّد تظهر كثيراً في أعمال العزاوي). لم تتبق إلا القليل النادر من الإشارات التي تدلّ صُراحاً على العالم المديني: ثلاث تحات أسفل اللوحة لعلها تدلّ على الشبابيك.- في عام 1932 يرسم دافيس "مصنع عبر البحر" (غواش على ورق) Factory by the Sea، وفيها نرى رسماً أجمالياً بالأسود والأبيض لبنايات العصر الصناعي الجديد النامي. نشاهد أيضاً بعض الكتل اللونية بالأحمر والأزرق والأصفر والأسود التي لا تشكِّل تلويناً قدر ما تصير عناصر مستقلة، تجريدية تقريباً في داخل العمل، لكننا نرى منذ الآن في أعلى البناية يسارا كتابةً وتاريخاً (1869- print) وفي داخل الكتلة اللونية السوداء الحرف (Y). - عام 1938 يرسم دافيس لوحته "الواجهة المائية لنيويورك" (New York Waterfront). هنا تعاود الكتل المدينية الطافية بالظهور بشكل أوضح لكنها مفككة إلى عناصر أمْيَل للأشكال الهندسية الأكثر صرامة المختلطة الآن بحروف منفصلة تصير من الطبيعية الشكلية للكتل: حرف الـ m وحرفا LR. يذهب اختزال الألوان بعيداً ويصير هو نفسه الكتل: الأحمر الصارخ والأزرق والأسود والأبيض على خلفية بيج.- عام 1940 يرسم دافيس لوحته "تقرير من روكبورت" (Report from Rockport). الكتل اللونية هنا بالألوان ذاتها تقريباً- يُضاف لها الأصفر ولون آخر- وهي تطغى على التكوين وتودّ تغييب الكتل المدينية المتبقية. لكن الكتابات (GARAGE...) والحروف والأرقام (8) والعلامات الأخرى تحضر بوضوح، ويقع حوار بين الحرف والعلامة الأيقونية. - عام 1944 يرسم "جي ودبليو" (G and W, Hirshhorn Museum Washington) التي يختفي فيها من الناحية الشكلية إلى أبعد حدّ الإلماح إلى العمارة المدينية، ويطغى عليها من الناحية اللونية الأصفر مع حضور ملح للأحمر الذي يخلق تضاداً قوياً كل مرة، كما هو حال الأحمر في لوحات العزاوي. وفيها نستطيع تلمُّس نوعاً من العلامات الكتابية من أصل غير لاتيني. وهذه الفرضية لها ما يبرّرها في بعض ممارسات مدرسة نيويورك المحايثة للفنان حيث استخدم أحد رساميها منذ بداية أربعينيات القرن العشرين، مارك توبي Mark Tobey، الحرف العربي لصالح هواجسه التشكيلية المغايرة. لو افترضنا أن دافيس يستخدم هنا علامة كتابية مجهولة أو مخترّعة اختراعاً، فلن يغيِّر الأمر شيئا يُذكر. - عام 1945 يرسم "الميلو باد" (The Mellow Pad) التي تمثّل خير تمثيل لوحته "الحروفية" وتماثِل من المناحي، التكوينية- التجريدية واللونية، كلها تقريباً لوحة حروفية عربية من منجزات ضياء العزاوي، مع فارق أن حروف الفنان الأخير عربية وحروف دافيس لاتينية إضافة الى استخدامه علامات أيقونية وكتابية مجهولة أو مخترَعة. العنوان صعب الترجمة وله علاقة بمرجعية الجاز. وقد لعب دافيس على مفردته Pad التي وجدها مسلية. في عامية موسيقى الجاز لعل العنوان mellow Pad يشير إلى حالة عاطفية، بقعة لذيذة تُجرَّب أثناء أداء حار للغاية أو قول أو استماع، وإلى واحد من هذه كان يسعى دافيس.يعترف النقد الأمريكي أن دافيس في هذه اللوحة "يملأ قماش هذه اللوحة بخليط من النقاط والأقواس والمنحنيات والصلبان والخربشات والأشكال الأخرى، القليل منها لها علاقة بأشياء الواقع الفعلية. وبصفته ملوِّناً بارعاً، اختار الرسام باليته باردة لـ " mellow Pad" لكن أيضاً جامحة، فيها وفرة من الهيئات المكثفة. بين الألوان والهيئات تهتز الصورة تقريباً. يتدبر ديفيس هنا خلق معادل تصويري لعملية تأخير النبر (أو الترخيم) syncopation من خلال ايقاعات بصرية غير نظامية خلقها تنظيمه الطليق للأشكال والألوان".- عام 1951 يرسم لوحتين هما "أوه! في سان باولو" (Owh! in San Pao) و"فيزا" (Visa). كلتاهما على خلفية صفراء وكلتاهما تستخدمان الكتابة اليدوية، نوعا من الكاليغرافي، كما المساحات اللونية المُسطَّحة. لقد ابتعدنا كثيرا الآن عن العالم المديني وصار للحروف والكتابات مكان أساسي في ت
بين ستيوارت دافيس وضياء العزاوي
نشر في: 25 فبراير, 2012: 07:29 م