هاشم تايه يحدّد كتاب رسمي حديث، موضوعه (التزام)، صادر عن مكتب وكيل إحدى وزاراتنا، وموجّه إلى الدوائر والمديريات التابعة لتلك الوزارة، يحدّد، هذا الكتاب، الأشخاص المسؤولين عن تنفيذ توجيه معالي الوزير "بشأن التزام الموظفات بالملابس المحتشمة المنسجمة مع الآداب العامة والذوق العام، وعدم التبرج واستخدام الملابس التي لا تتفق مع مكانة الموظفة العراقية والعائلة العراقية المعروفة بالمحافظة على القيم العليا".
وهؤلاء الأشخاص، كما يقرّر الكتاب هم "رؤساء التشكيلات، ورؤساء الأقسام" الذين سيتولون "مراقبة هذا الموضوع بشكل مباشر". بعد قيامهم بـ "الإعمام على جميع الموظفات بشكل تحريري" بما ورد في كتاب الوزارة الذي سرعان ما يمضي أبعد فيتوعّد من قرّر إلزامهم مراقبة سريان توجيهه المتعلق بالملابس المحتشمة، بعقوبات مضمرة غير محدّدة يلمّح إليها بقوله "وسيتمّ تحميلهم المسؤولية في حالة ملاحظة حالات مخالفة للعمل بموجبه". آخر عبارة في الكتاب تجتهد في ترسيخ انطباع عن جديّة الوزارة في إنفاذ أمرها القاضي بـالتزام موظفاتها بـ (الملابس المحتشمة)، فتطلب من تشكيلات الوزارة الإدارية تزويدها بنسخ من "إعماماتكم على الأقسام والشعب المرتبطة بكم لملاحظتها والعمل بموجبها". وإذن فالوزارة لم تجد غير المدراء ومسؤولي الأقسام والشعب في كلّ دائرة حكومية تابعة لها، فقررت أن تضع في رقبة كلّ واحد منهم مسؤولية غريبة تقع خارج إطار العمل المنوط به، ولا تمت بصلة لطبيعة وظيفته التي مدارها الإدارة والتوجيه والإشراف والمتابعة لعمل وظيفي محدد أهمّ ما يعني الإداري منه إنجازه في وقته من قبل موظفاته وموظفيه بالشكل المتوخى. الوزارة، بما قرّرت، تفرض على هؤلاء الإداريين أن يكونوا قيّمين على غيرهم في أمر يتعلّق بشأن شخصي لا علاقة له بالعمل وتفترض أنهم جميعاً على استعداد للقيام بهذه القيمومة مهما يكن رأيهم فيها، أو موقفهم منها. كما تفترض أنّهم جميعاً يمتلكون تصوّراً موحّداً لطراز من اللباس المحتشم، هو أقرب إلى مثال عليهم أن يزرعوه في أدمغتهم على شكل ملصق لموظفة يعكس ملبسها درجة الاحتشام التي تصر الوزارة على أن تجدها فيه. وهي، بهذا، تعيدنا إلى الزمن السّابق حين كان النظام يحمّل إدارياً، أو مديراً لقسم أو شعبة في دائرة حكوميّة المسؤولية عن نقاء عقول موظفيهما وقلوبهم من أي ّولاء لغير القائد والحزب والثورة. في مدن الجنوب، مثلاً، يغدو جهد المؤسسة الحكومية في إلزام موظفاتها بلبس الثياب المحتشمة زائداً وقد انتفت الحاجة إليه، فقد تولاه عنها، من زمن، متشددون حملوا على الثوب النسويّ حملتهم المشهودة ونجحوا في إعادة تشكيله بمواصفات مثالهم عنه نسيجاً، وشكلاً، ولوناً، وطولاً، وعرضاً، ونفوا عنه روحه الشخصيّة، وجرّدوه منها، فصار الجميعَ على الرغم من أنه الفرد. وتمّت إهانة الثوب النسوي حتى على أجساد نساء هنّ مجرّد صور في ملصقات إعلانات تجارية معلقة في الشوارع صعد إليها مَنْ صعد وبيده فرشاة عريضة و(بويا) سوداء، ورسم الحشمة التي ترضيه بلطخات سود لم تبق من نسوة الملصقات إلاّ العيون ضائعة في كتل من السواد. ربّما، في يوم قريب، تخترع مؤسستنا الحكوميّة وظيفة جديدة تتعلّق بالملابس المحتشمة... سيكون هناك موظف حشمة مُدرّب يقف مهيباً بجلال في استعلامات دائرته، لا لشيء إلاّ ليعيد موظفة إلى عقر دارها إذا استعصى ثوبها على ذوقه وأدبه ومثاله. في زمن سابق زار محافظٌ إحدى الدوائر، وقبل أن يغادرها أوصى مديرها بأن يمنح موظفة مكافأة مالية لأنها ظلت عاكفة على العمل الذي بين يديها ولم تتركه لتقف من أجله حين دخل القسم الذي تعمل فيه. كانت تلك الموظفة شابة سافرة بمظهر أنيق. في زمن آخر يعترض محافظٌ الطريق على موظفة كانت خارج القسم الذي تعمل فيه داخل دائرتها فلم يسألها لِمَ هي خارج موقع العمل، بل مضى يصرخ فيها وهو يشير إلى ملابسها: "ما ناقصة غير زفة عرس"!كانت تلك الموظفة محجبة، لكن ليس على طريقة السيد المحافظ.
موظفو الحشمة!
نشر في: 25 فبراير, 2012: 07:32 م