أ.د.قاسم حسين صالحتنفرد حياة العراقيين عن باقي الشعوب بأنها كانت في الثلاثين سنة الأخيرة أشبه بأرجوحة تتأرجح (رايحه جايه) بين:أزمة..انفراج،أزمة ..انفراج...نجم عنها تقلّب في المزاج وعدم استقرار نفسي.والأزمة،بحسب قاموس وبستر،فترة حرجة وحالة غير مستقرة تخلق التوتر في نفوس الناس،وتمثل تهديدا لصانع القرار وارهاقا وجهدا نفسيا لتأثيرها السلبي على القدرات والمهارات الذهنية.والمشكلة ليست في حدوث الأزمة بل في كيفية ادارتها.
ويبدو ان الأزمات الحادة التي انفرد بها العراق صاغت العقل السياسي العراقي بطريقة برمجت عملياته المعرفية على تصلّب وجمود فكري يفتقر الى المرونة والقدرة على ايجاد البدائل،فضلا عن أن الأزمة تعمل سيكولوجيا على زيادة ارتباط القائد السياسي بجماعته وزيادة ميله لاستعمال القوة ضد الآخر. ان السياسة والصراع في متلازمة أزلية لأنها متعلقة بتنافس على سلطة وثروة واعتبار اجتماعي وغالب ومغلوب.والمشكلة ليست في الصراع بل في أساليب التعامل معه. فمن مفاهيمنا الخاطئة التي صنعتها الأزمات اننا ما أن نسمع كلمة (الصراع) فان ذهننا يبادر لاستحضار صور العراك والعنف والخصومة الدائمة..مع أنه يؤدي احيانا الى حالة ايجابية. غير ان تاريخنا السياسي والاجتماعي، صاغ تفكيرنا بطريقة صرنا نفهم فيه الصراع على أنه حالة بين ان تكون او لا تكون..بين أن تبقى أو تفنى!.وسواء كان الصراع سياسيا" أو اقتصاديا" أو اجتماعيا" فأن حلّه يتوقف على طبيعة ادراكنا له ،الناجمة عن نوعية منظورنا الفكري ونضجنا السياسي. فالطرف الذي يتحكم به منظور أن الصراع يعني وجوب التغلب على الآخر والانتصار عليه باية طريقة كانت، يجبره على أن يتعامل مع الطرف الآخر بأسلوب حذر وتأويلي..بمعنى أنه يفسّر أقوال وافعال الطرف الآخر بأن فيها (انّ) حتى لو كانت لطيفة وبنوايا طيبة،فينجم عنه اثارة مشاعر سلبية يفضي تراكمها الى كره متبادل بين اطراف الصراع..فيما المنظور الصحيح هو ان الصراع يمكن ان يكون عاملا مساعدا ومصدر طاقة يمنحنا الفرصة لتعميق علاقاتنا ويجعل اطرافه اصدقاء لا اعداء ويمنح الجميع المتعة والبهجة. والشائع عندنا،لاسيما في حياتنا السياسية،أننا نساوي بين الصراع والإحباط،الذي يمثل حالة نفسية تنطوي على تعبيرات انفعالية سلبية وسلوكية عدوانية ، تنشأ عند مواجهة هواجس تعيق تحديد الاهداف المنشودة،الأمرالذي نجم عنه (عندنا) أن كلّ طرف صار ينظر الى الطرف الآخر بوصفه عقبة تحول دون تحقيق مصالحه..دون أن يدرك أن هذا يفضي نفسيا الى أن تتكاثف مظاهر السلوك العدواني مصحوبة بزيادة حدّة الاحساس بالاحباط، توصله لنتيجة كارثية هي (يقينه )أن الصراع يستلزم نجاح احد الطرفين وإلحاق الاذى بالطرف الآخر..وهذا أحد أهم أسباب أزماتنا التي ستبقى مستعصية على حلّ عقلاني ما لم نغير أساليب تعاملنا الخاطئة مع الصراع. ومع تعدد مساعي سياسيين كرد مخلصين ووجوه اجتماعية عربية لاحتواء الأزمة فان الخلاص من المحنة الحالية يستوجب عمليتين سيكلوجيتين:الأولى:ان يتخلص الفرقاء من البرنويا السياسية التي تنتعش في أوقات الأزمات بتغذية راجعة بين قائد سياسي يذكيها وجماهير تتحكم بها عقدة الثأر الجاهلي،والثانية: ان يغادر (أنا) القادة السياسيين مفهوم (البطل) بالصيغة المشفّرة في العقل الجمعي العراقي: (الزعيم الأوحد)،(القائد الضرورة)،(القائد الرمز...) التي تفعّل حاجة الجماهير المأزومة الى (بطل) تصنع منه دكتاتورا!. ومن عجائب الأمور أن أزمة حدثت في العراق عام 1929 نظم فيها الجواهري قائلا: ستبقى طويلا هذه الأزمات اذا لم تقصّر عمرها الصدماتاذا لم ينلها مصلحون بواسل جــريئون فيما يدّعون كفاةألم تر أنّ الشعب جلّ حقوقه هي اليوم للأفراد ممتلكات؟ومن عجب أنّ الذين تكفّلوا بانقاذ أهليه هم العثرات!!ياسلام..ما أشبه الليلة بما قبل سبعين سنة!..ترى هل هي علّة فينا نحن العراقيين؟!
العقل السياسي ..صناعة أزمات
نشر في: 2 مارس, 2012: 08:14 م