صلاح نيازي كأنْ بصورةٍ تلقائية، وبدون عسر ولادة، طرأت على أدبنا العراقي، ثلاثة تحوّلات خطيرة، لم نعرفْ لها مثيلاً من قبل. يبدو أن هذه التحوّلات إنّما نشأت بزخم ديالكتيكي لا علاقة له بأيّ نهج ثقافي رسمي، أيْ بعيداً عن أروقة الحكومة.التحوّل الأوّل ببساطة، وفاة شعر المدح، مرّة واحدة، وكأنْ بسكتة قلبية، أو جلطةٍ دماغيّة. لم تُذرفْ عليه دمعة رغم عمره الذي امتدّ، لقرون وقرون. اختفى، عسى إلى غير رجعة، مشهد ذلك الشاعر بين يديْ السلطان وهو ينشد ببحيحٍ عاطفي،
شعره المشحون بالمفرقعات المجازية. لهب ولا نار. نور ولا هداية. تجارة بائرة خاسرة، لكنها درّت على أصحاب المواهب الفاترة mediocre ربحا ماديا مؤقتا وجاهاً غير ذي بال. الغريب؛ إن المدحيات وإن وُلدت متزامنة تقريباً في شتى البلدان العربية، إلا أنها وجدتْ في البيئة العراقية خير مقام. استفحلت في العصر العباسي، وابتُذلتْ في العهد السابق.(قد يجمل القول إن فئة من الشعراء العبّاسيين المهمين ابتعدوا، عن المدحيات كلية، عن مبدأ). قلنا العهد السابق لأنه حثّ بالإكراه على هذا النوع من النظم، وإلاّ فالعصا وقد تشير إلى الحتف. غصت شاشات التلفزيون، والملاحق بقصائد مطلية بأصباغٍ مستعملة، مرّة بعد مرّة، ما أن تجفَّ مناسبتها حتى تتقشّر. كأصباغ الأرصفة وسيقان الشجر لدى زيارة ضيف رسمي أجنبي. ***التحوّل الثاني، هو نشوء أدب السخرية، على حساب الأدب الهجائي. يبدو أن الهجاء، شعرا ونثراً، هو من السمات الأساسية في الأدب العربي، أو هكذا يتعلمه الطلاّب ويحفظونه عن ظهر قلب. بالمقابل فإنّ أدب السخرية من سمات الادب الغربي منذ العصر الإغريقي. ألا يكفي أن نذكر ارستوفينيس الإغريقي.(والتذكير هنا بمسرحيتيه: الغيوم، والفرسان)، وموليير الفرنسي، وأوسكار وايلدْ الإيرلندي.قد يكون الجاحظ بمستوى اكبر الكتاب الساخرين في العالم، وكذلك بديع الزمان الهمذاني في مقاماته، وابن دانيال الموصلي في بابات خيال الظلّ. (للاسف ضاع شعر ابن دانيال. ما بقي منه من شذرات، ينم بلا شك عن تفرّدٍ في القول الشعري وعن موهبة ساخرة فذّة)، إلاّ أن تآليفهم توقفت منذ قرون في بيئتها الأصلية نتيجة الحروب، ولكنها نمت وتلاقحت في الأدب الأوروبي، (أعتقد شخصياً أن الأوبرا تطورت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر بجنوب إيطاليا عن مسرح خيال الظلّ، أما مقامات الهمذاني فقد تطورّتْ، كما هو موثقّ، إلى روايات البيكارسك الاسبانية، picaresque أي المشردين، وهي أحد جذور الرواية الأوروبية الحديثة).عرِف الهجاء قديماً باسم المنافرة التي تعود أصولها إلى العصور السومرية. يقف فيها شخصان دون معرفة سابقة يتنابزان بأقذع الشتائم، وحولهما أناس يتفرجون عليهما. اعتبر أحد النقاد السوريين هذا النوع من التلاسن نواة المسرح العربي، وهو كما يبدو قول بُسْر.مهما دار القول؛ قد يكون الجاحظ أول من انتبه إلى الفرق بين السخرية والهجاء الذي عزاه إلى اللؤم.لكنْ كيف نشأ أدب السخرية هذه الايام؟ وكيف انتشر، ولا سيّما في المواقع الألكترونية؟ما همّ، لقد كُتبتْ بعض تلك المقالات الساخرة باللهجة العامية فكان، مفعولها أكثر إدهاشاً. واللهجة العامية إنْ كان وراءها فكر مثقف، ترتفع إلى مصاف المأثورات.*** المشهد الثالث هو تحوّل الخطاب الأدبي، إلى خطاب قانوني. يدشّن هذا التحوّل مرحلة مهمة في تقدّم الامم، لانه اكثر موضوعية أوّلاً، ولانّه يؤدي إلى الخطاب العلمي. لا عجب؛ إنْ بات للقضاة اليوم الكلمة الفصل، ولرجالات القانون حصة الأسد في الندوات التلفزيونية والبرلمان. أصبحت أسماؤهم متداولة أكثر من أسماء الممثلين، وكانوا قبل ذلك في خبر كان فعلاً. القانون سابقاً ما يرتئيه الباب العالي كتابةً أو تفوّهاً. قال الملك لير: ما أقوله هو القانون. لكن الملك لير كان تحت سلطان الجنون حين قال تلك الجملة الطائشة.يذكر الشاعر الأمريكي عزرا باوندْ اننا تعلمنا القانون من المسرح الإيطالي. وفق هذا الرأي فإنّ اللغة الأدبية تتطور إلى لغة قانونية.من الطريف ان النواب في مجلس العموم البريطاني، يتبادلون التهم بكلمة rhetoric حينما يمعن النائب بالتحدث بلغة بليغة ولكنها خالية من المستندات.أكثر من ذلك فإن اللغة القانونية في بعض وجوهها أقرب إلى العلم من حيث دقتها وموضوعيتها وابتعادها عن الأهواء والنزوات. من هنا خطورة (الحملة الإيمانية) التي دعا إليها العهد السابق. فهم من حيث لا يدرون إنما كانوا يعيدون اللغة إلى الوراء مرحلتين ثقافيتين. من ناحية ان تلك الحملة أوقفتْ، من حيث طبيعتها الغيبية، اللغة القانونية واحتمالات تطورها إلى لغة علمية، وثانياً أرجعت اللغة الأدبية نفسها إلى لغة دينية يقينية. هكذا تقلّصت إلى مجرد لغة تلقينية خالية من التلاقح شأنها شأن اللغة العسكرية لا تعرف إلا فعل الأمر والطاعة.من النافلة ان اللغة التي تصبح يقينياتها أكثر من احتمالاتها، تتعرض تدريجياً إلى الانقراض.
ثلاثة تحوّلات أدبية بعد عام 2003
نشر في: 3 مارس, 2012: 08:58 م