كريم عبدونحن نعيش تساقط أنظمة الاستبداد الواحد بعد الآخر، لابدَّ من فهم العوامل الاجتماعية والثقافية التي ساهمت بإنتاج تلك الأنظمة الاستبدادية للحيلولة دون إعادة إنتاجها، خصوصاً في العراق الذي يقف على مفترق طرق، إذ تعمل حكومة المالكي بطريقة لا تثير اطمئنان غالبية العراقيين المتضررين من هيمنة الأحزاب الدينية عموماً وحزب الدعوة خصوصاً، على الدولة.
إن ما يردده المالكي وقيادات الأحزاب الدينية من أن الحكومة الحالية هي حكومة شرعية ومُنتخَبة ديمقراطياً، هو أمر صحيح شكلياً، أما من ناحية الجوهر فهو مصدر تساؤل وشكوك، لأنه لا يوجد مبدأ اسمه الديمقراطية من أجل الديمقراطية على غرار الفن من أجل الفن، بل أن الشعوب تختار الديمقراطية من أجل مضامينها الاجتماعية وهي تحقيق العدالة وضمان الحريات وتكافؤ الفرص، وهي أيضاً تطوير الصناعة والزراعة المحلية من أجل تحريك سوق العمل وإكمال دورة المال والاقتصاد في العراق، وكل هذا ليس غائباً فقط، بل ما موجود هو العكس تماماً، لذلك ترتفع معدلات البطالة وتحل التجارة الخارجية محل تطوير الصناعة والزراعة وتزداد وتيرة الفساد دون أن يُحاسَب المفسدون الكبار !! بل تزداد المليارات المفقودة من ميزانية الدولة دون أن يتحمل نوري المالكي مسؤولية كشف الحقائق بصفته رئيساً للوزراء!! وكل هذا وسواه يُشير إلى ترجيح إمكانية تأسيس نظام ديمقراطي مزيف على طريقة نظامي حسني مبارك وزين العابدين بن علي الساقطين. وإذا كان الحديث يدور منذ فترة عن فضيحة اختفاء خمسين مليار دولار، فإن النهب المنظم للمال العام من قبل قادة الأحزاب المتنفذة جعل العراق بيد طبقة سياسية تريد الهيمنة على السلطة والثروة معاً، أي إجهاض النظام الديمقراطي من داخله!! وهنا يكمن مصدر القلق الحقيقي، فهناك من يشير إلى تراكم عوامل الثورة الشعبية الكاسحة مرجحاً التحاق العراق بالربيع العربي قبل نهاية هذا العام، وهذا النمط من الثورات يحدث فجأة نتيجة لتراكمات كثيرة، فيتفاجأ الحكام الفاسدون ولكن بعد فوات الأوان.وهناك في صفوف المعارضة الشعبية، وليست النيابية لأن هذه غيبتها المحاصصة، من لا يزال يدعو إلى إمكانية تطوير النظام الديمقراطي من داخله وذلك من خلال المزيد من تسليط الضوء على السلبيات وجعل النقد السياسي يمتاز بالجرأة والصراحة داعياً إلى رفع الوتيرة المطلبية والعودة لتظاهرات الاحتجاج السلمية. إن أي مشروع للإصلاح السياسي لا بد من أن يقترن بفتح آفاق واقعية لتطوير الثقافة الحقوقية للمجتمع السياسي داخل الدولة وخارجها، وإعادة تعريف وفهم المجتمع المدني ودوره في تطوير الحياة ديمقراطية، ولكن كيف ؟!الجهل السياسيكثيراً ما ساهم الجمهور بصناعة المستبدين بسبب جهله السياسي وعاطفيته، ولذلك فإن بداية الحل تكمن في إعادة تأهيل المواطنين ثقافياً وسياسياً بما ينقذهم مما تراكم في أذهانهم من مفاهيم مشوّهة عن دور الدولة ووظائفها الأساسية، وهي توفير الأمن والخدمات وحماية الحريات ودعم وتطوير الاقتصاد الوطني، وليس القمع وتمجيد الحاكم أو التبشير الأيديولوجي الذي يُحوّل المواطن من إنسان إلى حيوان حزبي!! إن الثقافة الحزبية عندنا، يميناً ويساراً، غالباً ما كانت بائسة رغم إدعاءاتها الكثيرة، وليس أدل على ذلك من انحسار تيارات سياسية كانت لوقت قريب ملء عين الجمهور وسمعه لكنه تخلى عنها كما تشير نتائج الانتخابات الأربعة الماضية. لكن الجمهور نفسه – وهذا واحد من مقالب الواقع العراقي - سرعان ما أحس بالندم بعدما تأكد من خطأ توجهاته حين تدافع لانتخاب أحزاب التيار الديني. فقد خذلته هذه الأحزاب أيّما خذلان. إن أي دارس موضوعي لتجربة الانتخابات الديمقراطية بعد 2003 لابدّ له من التوقف طويلاً عند خيبة الجمهور العراقي بمن انتخبهم والحيرة التي ستواجهه في الانتخابات القادمة! لكن أسوأ الحلول وأخطرها هو أن نسارع إلى إدانة هذه الجمهور وتقريعه كما يفعل بعض الكتّاب هذه الأيام!! لأن هذه الطريقة ستكون بداية لتعميم (عقدة الاشمئزاز من الذات) كما حصل في ألمانيا بُعيد سقوط النازية، حيث سرعان ما تحوّل جلد الذات إلى مشكلة ثقافية وسايكولوجية رافقت الألمان عشرات السنين. وفي العراق لن يكون تقريع المجتمع أقل ضرراً مما حدث في ألمانيا، بل أكثر خطورة، ليس فقط لأن تقريع الجمهور يدل على عجز هؤلاء الكتّاب عن فهم خلفيات الظواهر ومقالب الواقع في لحظات الاضطراب السياسي، ولكن أيضاً لأن اتهام المجتمع بالصفات السلبية والتندر عليه، إنما يبرر جرائم النظام السابق ويسوغ سياسة الحرمان ونهب المال العام المُتبع الآن، كما يُكرّس مقولة الجلادين عموماً، خصوصاً تلك العبارة الرقيعة التي تعود البعثيون على ترديدها بلسان وضمير أعوجين: (هذوله همَّ العراقيين، ما يفيد وياهم غير العصي .. )!! نتائج الصراع العبثيّوعودٌ على بدء: ليس اعتباطاً أن يقول أحد أقطاب التيار الإسلامي بُعيد إعلان نتائج الانتخابات العامة 2005 :(لقد انتخَبَنا الشيعة لأنهم لا يملكون بديلاً). ولو تأملنا هذه العبارة جيداً لوجدنا المعنى الواقعي ولكن المأساوي لانقلاب المفاهيم السياسية التي كان المجتمع العراقي ضحية لها في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ غرق العراقيون في الصراع الدامي بين الأحزاب القومية واليسارية، الذي دفع
دولة القبائل الحزبية في (العراق الجديد): الجهل والخيبة والمفارقات!
نشر في: 4 مارس, 2012: 08:11 م