صلاح عباس منذ فترة طويلة، كنا نتواصل مع الفنان عدنان اطيمش ونحاول التنسيق معاً لوضع منهاج عمل لدليل الفنانين العراقيين الذي تبنت مشروعه دائرة الفنون التشكيلية، إحدى دوائر وزارة الثقافة، فدليل الفنانين التشكيليين العراقيين يشتمل على كل الفنانين المبدعين في داخل العراق وخارجة ولذا فقد كنا نمد جسور التواصل مع الفنان عدنان اطيمش للمشاركة في تقديم الأوليات عن تجربته الفنية وتجارب الفنانين العراقيين المقيمين في ايطاليا إلا أن يد المنون حجبت عنا هذا التواصل الذي من شأنه إثراء ثقافة المعلومات.
إننا هنا لا نندب حالة رحيله ولا نأسف على فقده ذلك لأنه دأب كي يحقق الجدوى من خلال الفن والفكر والموقف الفلسفي المتواشج مع الحياة وعلى الرغم من اغترابه عن الوطن وبعد المسافة المكانية غير انه تداخل مع هموم الوطن ورصد كل الحالات والأحداث والمفارقات التي أججت مشاعره المرهفة فكان يشتغل على الألوان وانساق الخطوط ليفض أفواه المعاني الراقدة في سره ويستخرج منها شعوره الكامن، ولذا فأنه ترك وراءه إرثا فنيا فخما كان بمثابة خلاصات حضارية وخطابات بصرية مسوغة برؤية عصرية وتطلع مستشرف للغد، وحين قلنا كلمة لا نأسف لأنه ترك وراءه حقائق وجوده الحيوية المعبر عنها بلغة كونية عميقة فمن بين الألوان نرى تشذر الروح النقية ومن بين الخطوط والتراكيب نصغي لموسيقى الشعر وتحولات الأفق، لا لشيء الا لأنها لغة الجمال والحب والسلام.لقد اشتغل الفنان بمنطقة فنية تزاوج مابين النهجين التجريدي والتعبيري في آن معا، فالتجريد يعني إقصاء الملامح وتذهيب المشهد من زوائده وترهلاته والإبقاء على العلامات السيادية التي تسمح بالاختصار الشديد وربما نقطة صغيرة تحتوي على العالم كله وكما قال (النفري) (كل ما في القرآن في الحمد وكل ما في الحمد في البسملة وكل ما في البسملة باؤها وأنا النقطة التي تحتها) وعلى هذا الأساس فالتجريد في الفن يمثل لغة بلاغية تتماهى مع الأفكار التصوفية المكتنزة بالتقوى والنظرة البعيدة التي تطلق تشفيراتها على محمولات الرموز والقصود المتأتية عن وعي مسبق بالزمان والمكان وما يفعلهما من أحداث ومواقف، أما النهج التعبيري فأنة يتجسد من خلال آلية الاشتغال وسبل الأداء الفني والتقني وتحسس بحركة أداة الرسم فتبدو اللوحة تحفى بحيويتها وديناميكيتها مهما تقادمت عليها السنوات وإزاء هذا الضرب من الاشتغال الفني فأن تلقينا لها يشعرنا بدفق من الحيوية وثمة صدق وحرية ووضوح وكما قال (مظفر النواب) (هذا أنا وقلبي من وراء القميص يلوح).إن فنانا الراحل جسد حرائق العراق والدم المراق وجسد أيضا صور الأصدقاء الذين غيبهم قدرهم أو غربهم عن أوطانهم فتاهوا في أتون العالم الواسع وبذا فأنه كان يحلق في السماوات البعيدة بجناحين أبيضين يجوب فيهما عوالم تخيله وتذكره الدقيق عن حالات شاردة مثل خيول مذعورة.إن الرسم في بعض الأحيان يمثل صيغة من الرثاء او لحظة مستشرفة للغد وربما يمثل توليفا مهذبا يعنى بطبع ملغزات الجمال المشيد على الحق والخير وبهذا المعنى فأن عدنان كان يمثل أمام لوحته الجديدة مثلما يمثل الراهب أمام محرابه وكان يرسم بمداد روحة الطاهرة ليستوحي ملمحا كاد يندرس او يعيد للأذهان أسئلة الحياة المريبة فلامست أنامله الدقيقة مجسات روحة الشفافة فهموم الرسم هي ذاتها هموم الحياة ومحنة الوجود.لقد قال كلمة في الحياة ومضى.
في رحيل الفنان عدنان اطيمش.. الرسم بمغزاه التعبيري
نشر في: 5 مارس, 2012: 08:24 م