ساطع راجي أصبح لذيذاًً وممتعاً الاسترخاء المطوّل تحت الشجرة الوارفة المسماة "نقد السلطة"، إنه ميدان رحب أيضا لرفع الصوت وتقديم الذات البطولية الاستشهادية المنزوعة السلاح التي تخوض غمار مواجهة لا نهاية لها وأحيانا بلا أهداف عملية، فما هي غاية هذا "النقد للنقد" المتسيّد في البلاد من الجميع للجميع بلا حلول ولا مقترحات تقدم بدائل سياسية للمناهج والأفكار والتنظيمات والأشخاص؟
لعبة "نقد السلطة" جذبت حتى أعمدة السلطة أنفسهم وصاروا ينافسون الإعلاميين وكتّاب الأعمدة والمعارضين ممن هم خارج السلطة فعلا، على القيام بدور المعارض المنتقد ،وفي مقابل هذا النقد هناك فراغ شاسع وصار من المعتاد تكرار عبارة "أن المالكي هو بديل المالكي" رغم أن رئيس الوزراء لا يشكل كل الحكومة وهو مع ذلك ومعه كل القوى التي تشكل الحكومة وتدير البلاد منذ سنوات مسؤولية كل السلبيات والمشاكل لكن تحميل السلطة ومن فيها ومن معها المسؤولية ليس كفيلا بإنتاج الحل.حتى عندما يتصرف شركاء المالكي على أنهم كيانات معارضة فإنهم في الحقيقة لا يفعلون ذلك إلا بهدف تحسين حصتهم في الشراكة أو حماية أنفسهم ،ويبدو أن المالكي صار يعرف كيف يتعامل مع شركائه "بحكم العشرة" فهم (الشركاء) لديهم طلبات وليس اعتراضات جوهرية وهي طلبات غالبا ما تتم المساومة عليها وهكذا تم خنق العمل السياسي في حقل المساومة، والجانب الآخر المهم لشركاء المالكي هو الظهور الإعلامي بلباس المنتقدين المعارضين مرة لإرضاء شغف المتابعين للعرض المتواصل للعبة القائمة منذ سنوات، ومرة أخرى للبراءة من الأخطاء والمشاكل.يحق للإعلام ولكتّاب الأعمدة توجيه الانتقادات لمواضع الخطأ والفشل وحتى تسليط أضواء كبيرة على مشاكل وقضايا قد يراها الساسة ومعهم ربما شريحة من المجتمع على أنها مشاكل بسيطة، لكن هذه وظيفة الإعلام وواجبه، وواجب الحكومة ووظيفتها متابعة ما يطرح ومحاولة إصلاحه ،أما واجب المعارضة حتى ولو كانت من خارج البرلمان فإنما يتلخص في طرح بدائل وليس الاستسلام لعملية النقد التي تبدو سهلة، وفي الحصيلة نحن أمام وجوه وتنظيمات محدودة تدير البلاد منذ سنوات مقابل فيضان من النقاد الناقمين وغياب كامل للمعارضة الحقيقية.بعض القوى التي لم تنجح في الانتخابات البرلمانية تمارس المعارضة كعمل موسمي عابر يريد القائمون به القول "نحن هنا" مجرد قول لا أكثر يمرر في فعاليات باردة وإعلام قديم ووجوه أثبتت فشلها الساحق مرة بعد أخرى دون أن تجرؤ التنظيمات "المعارضة" على تغييرها ومع ذلك تدعي تلك التنظيمات عن برامج لتغيير كبير في البلاد بينما تعجز عن تغيير أعضاء مكاتبها القيادية.هناك مشاكل وأزمات في كل مجتمع ويتميز النظام الديمقراطي بأنه يفتح الطريق دائما لإنتاج الإصلاحات وطرح البدائل، الديمقراطية نظام الفرص الكثيرة والآمال الممكنة والأزمة الحقيقية فيه تكون عندما يعجز المجتمع عن إنتاج بدائل سياسية (أفكار، أشخاص، تنظيمات، مناهج) حتى عندما يجمع ذلك المجتمع على التذمر من نخبته الحاكمة، وأسوأ ما يمكن سماعه والتعامل معه هو أن النخب المعارضة التي تفشل مرارا وتكرارا تقوم بطرح أقارب وأبناء مسؤوليها وأعضائها على أنهم بدلاء شباب في تنظيمات ديمقراطية ليكون الفشل بذلك وراثيا أيضا، وإذا كنا نشكو الانتهازية والوصولية والفساد في مؤسسات السلطة فإن ما يدعو لليأس أن تتفشى نفس الأمراض في المعارضة حتى عندما تكون مجرد عمل موسمي عابر، ولهذا كله لم تعد السلطة تهتم لمنتقديها ،وإذا كان حكام الديمقراطيات الورقية يرددون عبارة "قولوا ما تشاءون وسنفعل ما نشاء" فإن مدمني الاعتراض الأجوف يكررون للسلطويين "أفعلوا ما تشاءون واتركونا نقول ما نشاء"، هل هناك معادلة أسهل للعمل السياسي؟
أزمة البدائل السياسية
نشر في: 5 مارس, 2012: 09:13 م