احمد المهناأعتقد ان العرب يحبون سوريا اكثر من اي بلد آخر من بلدانهم. اقول هذا الكلام عن تجربة. وانا متأكد ان عراقيين آخرين غيري لديهم رأي مخالف. عن تجربة أيضا. وكلانا محق. ففصيلة العراقيين الذين تعود صلاتهم بسوريا الى ما قبل التسعينيات رأيهم على ما اعتقد من رأيي.
أما من جاءها بعد ذلك فيخالفنا المعتقد، ومعه حق كما قلت. فهؤلاء لم يعودوا قلة ولا زوارا عابرين، كما كان أسلافهم في العقود السابقة على التسعينيات، وانما صاروا مهاجرين مقيمين، زادت اعدادهم على اعداد مواطني دولتين مثل البحرين وقطر. وغالبا ما يختلف تقدير القليل عن الكثير، والزائر عن المقيم.ولأني من اولئك العرب الأولين الذين يحبون سوريا حبا لا تدانيه شائبة، فلم أستطع الكتابة عنها منذ اندلاع انتفاضتها، الا مرة واحدة، في البداية، عندما كان الربيع العربي مولودا جديدا مندفعا وباسما. ويومها كتبت مقالا عنوانه " ناتو على كل ظالم"! كانت ثورة ليبيا دائرة. وكانت تمنح الأمل في امكانية امتداد خدمات مجلس الأمن الى سوريا. ولكن بمرور الأيام والشهور ظهر اختلاف سوريا عن شقيقاتها من دول الربيع العربي، في نواح كثيرة، أهمها تعقيد تركيبتها السكانية، ولعب حاكمها الماكر بأعصاب طوائفها الحساسة.ولذلك تعطلت عندي لغة الكلام، كما لو كنت عاشقا مشلولا أمام مشهد محبوبته وهي فريسة ذئاب محمومة. فأي كلام ينفع؟ وأي لغة تجدي؟هناك، في سوريا التي نعرف، كان للعروبة وجهان ساحران، لا نظير لهما في بلد عربي آخر. أولهما شعور العربي القادم اليها، شعورا صادقا أو أصيلا، بأنه في بيته وبين أهله. وثانيهما ان إقامته فيها لا تحتاج الى مراجعات والى أوراق، فجواز السفر، الذي تدخل به اليها دون فيزا، كاف وحده لبقائك العمر كله فيها أو الخروج منها في أي وقت.والميزتان لا صلة لهما بسياسة ولا بحكومة، وانما نابعتان من بعد عميق في الشخصية أو الثقافة الإجتماعية السورية. وقد نجد نحن العراقيين فيها ما هو أكثر من تلك الميزتين. فدمشق أقرب "واحة" الينا بعد الرمال والصخور الفاصلة فصلا مديدا بيننا وبين الجيران. بل هي الواحة الوحيدة بعد المسافات الطويلة مع الجيران.والميزات الثلاث من بنات الأمس. أما ميزة اليوم فهي هذه المقاومة البطلة العنيدة لإسقاط الدكتاتور. تقابلها، للأسف، مخازي بطش السلطة، ووساوس كل طائفة من الأخرى. والثانية أسوأ من الأولى.هناك، في سوريا التي نعرف، سمعت لأول مرة التعبير الشامي الشائع " كبر مخك". ولا أروع من ذلك التعبير اذا اشتغل معناه حقا. لكن المؤلم أشد الإيلام أن يضيق "المخ الكبير" في داره، بعدما أحاطته أشباح الطائفية. والطائفية هي من أنجح الطرق لـ " تصغير المخ". وما أن تضطهد طائفة حتى تجد أكبر عقول أبنائها وقد " تطيف" وتناهى في الصغر. كذلك تفعل العنصرية. ووظيفة حكم بشار اليوم ملخصة بشحذ الأهواء الطائفية، " تصغير المخ" إن شئتم. واليد على القلب خشية نجاحه في تعرية سوريا الحبيبة من ثوب " كبر مخك"، وإكسائها زي العدوى اللاهبة.أليس غريبا أن تنطلق أشباح الطائفية بصورة متوحشة في كل بلد لسع بحكم حزب البعث؟
أحاديث شفوية: أخي " كبّر مخك"!
نشر في: 5 مارس, 2012: 10:12 م