مشرق عباس"عيننا على كرسيّ السلطة" ... ذلك ليس اتهاماً إلى الإعلام على أية حال ، بل واقع يصف الانتقال المتاح دائما بين كرسي الصحافة وكرسي السلطة ، لكنه الواقع نفسه الذي يجعل الحواجز فضفاضة بين الفريقين على رغم خصومتهما الظاهرة.
لم يكن غريباً بالنسبة لي أن أجد صحافيين يفضلون الجلوس في المقاعد المخصصة للحكومة على أن يرافقوا زملاءهم في مؤتمر أراد الناطق باسم رئاسة الوزراء علي الدباغ أن يجعله "نموذجياً" لجهة ترتيب أماكن الجلوس داخل القاعة ، غير أن الحابل سرعان ما اختلط بالنابل . زحف الصحافيون إلى كراسي الحكومة ، فهي الكراسي نفسها التي تحمل "الدبق" اللذيذ ، فربما تلتقطك الكاميرات إلى حيث تتمنى أن تنتمي! زاملت وعرفت صحافيين تحولوا إلى سياسيين ، ولحظت الانقلابات في شخصياتهم ، ومازلت أحيل الأمر برمته إلى سوء تقديرنا للصحافة وللسلطة على حد سواء.والحقيقة إننا من الصعب أن ننتظر من سياسي أن يكون أمينا للصحافة بعد أن يتجاوز مخاض الانتقال غير المؤلم ، حيث لا يتعدى الأمر أحيانا سوى أن نعود إلى جوهر ذواتنا ، إلى تماهينا العتيق مع السلطان أو "النوام" باختصار فرويدي . والى رغباتنا المكبوتة في أن نكون مكانه حتى في أشد ثوراتنا ضده.تعلمت مبكراً أن أتفهم لماذا يتفنن صحافي قضى سنوات من حياته في الدفاع عن حرية السلطة الرابعة ، بتقييد الصحافة وتكبيلها حالما يغادرها إلى مقاعد الحكام ، مثلما تعلمت أن أتجاوز تلك الزلات النفسية العابرة عندما تكون "أنا" الصحافي - السياسي أشد تضخماً من أنا السياسي نفسه.لا يمكن الافتراض أن ذلك الخلط سمة محلية ، فهو ربما يكون من أسوأ تبعات الصحافة على امتداد تاريخها ، وباتساع خريطتها ، لكنه في العراق الذي مازال يحاول إيجاد طريق وسط تناقضاته وارتباكاته ، أكثر اتساعاً ، بفعل غياب حدود فهم الصحافة والاستمتاع بالمهنة حيناً ، وانفتاح الأدوار الرسمية على مصراعيها لتضم كل طامح وحالم وقادر على القفز أحيانا.فالسياسة تطرح نفسها باعتبارها "قدراً" للصحافي ، وربما في تعبير آخر "قبراً" تستدرجه وتحيط به وتسبغ عليه ملامحها ، وسرعان ما تجده ينساق إليها بامتنان.كنت أقول لزملاء يضعون أولى خطواتهم على طريق مهنة المتاعب ، إن اللحظة التي تنسى فيها أنك "صحافي" سوف تقترن بتغير في قوانين حواسك المختلفة ، ستعمل عينيك بطريقة مغايرة ، تفقد "عين الغريب" ويهمل دماغك الإحساس بالتفاصيل . تختفي لذة الكلمة وجنونها ، فتسمع وتتحدث وتحلل من زاوية جديدة.المشكلة أن تلك المتغيرات غير محسوسة على الإطلاق خصوصاً لدى الصحافي نفسه ، فهو يمضي في ممارسة عمله من دون أن يدرك انه لم يعد ينتمي إلى مقعده.ومع هذا لا يمكن لأحد وسط الجدل حول تعريف الصحافي والصحافة وممثليها ، أن يحدد معايير واضحة للتمييز ، ولهذا سنضطر للتعايش مع دهشتنا عندما تشير الأرقام إلى الآلاف من أعضاء نقابة الصحافيين في العراق فيما الحسابات البسيطة تكشف المئات فقط من العاملين بالفعل.خلال المؤتمر اتهم زملاء من وسائل إعلام مختلفة مكاتب الإعلام في الوزارات بأنها "تمتهن" الصحافي ، عبر تقديم "الرشى" إليه تحت بند "المكافآت" ، وكان لافتاً أن هذه القضية حصرت في نطاق العلاقة بين الصحافي ومكاتب إعلام الوزارات ، وكأنما هنالك اتفاق ضمني بين الصحافي وممثلي الحكومة على نسيان جوهر سياسة امتهان الصحافة باعتبارها "استراتيجية" مازالت السلطة تتبناها على امتداد العقود السابقة.ينسى الجميع في لحظة محاصرة مجموعات من المراسلين الشباب ومكاتب إعلام الوزارات باتهامات حول "الرشى" أن الكثير من الصحافيين مازالوا يتقاضون "هبات" و"مكافآت" و"أراضي سكنية" باسم الحكومة وبوساطة "النقابة" وعبر قوائم معلنة.إن فساد الصحافي لا يتحمله الصحافي فقط ، عندما يسير المزاج العام في الدولة باتجاه التخلي عن الاستثمار في ترسيخ دور الإعلام وإشاعة ثقافة النزاهة الشخصية والمهنية لبناء مؤسسات إعلامية رصينة ومستقلة تليق بالعراق وتتجاوز حدوده إلى المنطقة والعالم.لن يحترم الصحافي كرسي الصحافة قبل أن تحترم "الدولة" هذا الكرسي ، وحينها فقط يمكن أن نرى أعدادا أقل من زملائنا يزحفون "بوله" نحو مقاعد الحكومة.
الإعــلام وكــــرسيّ الســـلطة
نشر في: 9 مارس, 2012: 07:38 م