لطفية الدليمي يؤكد كافافيس في (التأملات) على أهمية الكلمات بخاصة عندما يجد المرء نفسه محاطا بآراء تتعارض مع موقفه فيلزم عدداً من المثقفين الصمت في اعتقاد مغلوط بأن الكلمات غير مجدية وان الموقف لن يفضي الى تغيير، ويخيل إلي أن كثيرا من مثقفينا ومبدعينا المنسحبين من المشهد العام يفكرون بالطريقة نفسها مضافا إليه حرصهم على السلامة الشخصية وسط الأخطار ..يعلق كافافيس ( ذلك خطأ كبير ، أنا أفعل العكس، فعلى سبيل المثال ،
أنا انتقد عقوبة الإعدام وأعلن ذلك في كل فرصة متاحة ،لا لأني اعتقد أن الدول ستلغيها غدا بفعل كلماتي ، بل لأني مقتنع بأن إعلان موقفي سيساهم في انتصار وجهة نظري في النهاية).يدرك المثقف الجاد أن اتخاذ موقف معلن من قضايا تهم الإنسانية يسير جنبا إلى جنب مع الإبداع الجيد وان معظم أدباء العالم الكبار لا يكتفون بالكتابة الإبداعية - بل لابد لهم من عمل معلن ومواقف جريئة ضد الخلل والفساد والاستبداد والظلم ، ولا بد لكلمة أو موقف شجاع مؤثر ولن تضيع كلماته سدى في الهواء، فقد يتلقاها أشخاص عديدون وقد يهزأ منها بعض الرافضين للموقف لكنها في النهاية تؤثر في بعض الأشخاص وتدفعهم للتفكير واتخاذ موقف ما من القضايا العامة، يخشى بعض المثقفين إعلان مواقفهم كما يقول كافافيس -لأنهم خوافون أو عاجزون عن الفعل، لكن الكلمات قد تفضي إلى نتيجة وان الكلمة قد تفعل فعلها في الناس مهما كانت ومهما كان مقدار جرأتها أو خفوت صوتها، ولابد لأي مثقف أن يكون له موقف معلن فصناعة الإبداع والجمال قد تكون موقفا ضد القبح والكراهية لكن المواقف المحددة المعلنة إزاء قضية ما، هي التي تمنح الكاتب قيمة وأهمية لدى المجتمع ..2 يحاجج قسطنطين كافافيس نفسه - في (التأملات) - التي أسماها ملاحظات عن الشعرية والأخلاق يمارس نقده لبعض أعماله ويتحدث حول موضوعة الصدق الفني والزيف ونادرا ما نجد شاعرا ينقد عمله بهذا الوضوح والأمانة مع النفس والنص، يستشهد كافافيس بقصيدة من قصائده لا يعتد بها ، كتبها في مديح الريف اليوناني وهو لم يعش في اليونان أبدا ويقول ( حتى أنني لم أزره زيارات قصيرة على نحو ما يفعل الآخرون)، والقصيدة كما يبدو من كتابته عنها- لا تشكل أهمية إبداعية لديه قياسا بقصائده المهمة وأعماله الكبيرة الأخرى ويعتبرها (من اكثر المؤلفات زيفا)، ويعود ويتساءل لينقض موقفه من القصيدة: أهي زيف حقيقي؟؟ ألا يكذب الفن دائما ؟ أم بالأحرى أليس الفن حين يمارس أقصى الكذب فإنه آنئذ يبدع الأقصى؟؟ وحين كتبت تلك الأبيات ألم تكن منجزا فنيا ؟؟ وأن الشاعر حين كتب القصيدة كان يمتلك الصدق الفني واستحضر في مخيلته تجربة شخصية مفترضة لعيشه في الريف اليوناني .هل كان كافافيس يعتقد أن لابد من المعايشة لأمر ما، لكي يكون الفن صائبا وحقيقيا؟؟ ولكن أين تكمن الحقيقة في هذا ؟ يخيل إلي أن الروائي والقاص يختلفان في نظرتهما للصدق الفني ، فمعظم الأعمال الروائية والقصصية هي محض تخييل إبداعي، ولم يعشها الكاتب كممارسة على الأرض والواقع.يضيف كافافي ( وواقع أن تلك الأبيات لم تكن جيدة قد لا يرجع إلى افتقار الصدق ، ذلك أن المرء كثيرا ما يفشل حتى لو كان مسلحا بأصدق الانطباعات ) ويبقى موضوع الصدق الفني قابلا لتأويلات متعددة لدى المبدعين القلقين.
قناديل .. كافافيس: بين موقف المثقف والصدق الفني
نشر في: 10 مارس, 2012: 08:15 م