TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > مجرد الإنكار لا يُبطِل الجريمة..طارق الهاشمي إذ يتخبّط بين طلب العدالة والتشكيك بها..

مجرد الإنكار لا يُبطِل الجريمة..طارق الهاشمي إذ يتخبّط بين طلب العدالة والتشكيك بها..

نشر في: 12 مارس, 2012: 11:04 م

فخري كريم

من المظاهر المثيرة للازدراء، الازدواجية التي تَسِمُ سلوكَ ومواقف صُنّاع سياسة العراق الجديد بمختلف تكتّلاتهم.

إذ يمكن لأحدهم أن يقول الشيء وضده في نفس الحديث أو المناسبة دون أن يرفّ له جفنٌ، ويشعر بالإحراج ناهيك عن الخجل. وتتكرر مشاهد التناقض هذه كلما تعلّق الأمر بـ"أنويّة" السياسي "القائد" ومدى الحكمة والحنكة وبُعد النظر والمسؤولية الوطنية التي يتميّز بها في معالجة ما تتطلبه استعادة البلاد لاستقرارها وأمنها من مواقف بعيدة عن النزعات الفئوية الضيقة والانحيازات الطائفية والتخندق الذاتي المصلحي.

وهذه المظاهر هي الأخرى بضاعة متوارثة من النظام الدكتاتوري وهي صناعة يُعيد تسويقها والترويج لها أيتام ذلك النظام والحالمين بتوارث صيغة "محسّنة" من سلطة الفرد أو الطغمة المستبدة، وهي لا تختلف عن الكثير من المظاهر المثلبية التي يعاد لها الاعتبار في المشهد السياسي الراهن.

إن المواطن إذ يتابع تداعيات قضية طارق الهاشمي الذي أثيرت ضده تهم ارتكاباتٍ جرمية تنطوي على جناياتٍ إرهابية، يختنق بالحسرة وهو يتلمّس كل يوم تبدّدَ آماله بإنهاء معاناته من المصائب التي تحيط به من كل صوب،

فمنذ إثارة الدعاوى القانونية ضد الهاشمي ظلت أوساط القائمة العراقية تراوح عند موقف وحيدٍ لا يتغيّر، موقفٌ يتمثل في الطعن باستقلالية القضاء والتشكيك بإجراءاته، والمطالبة بإيجاد حلّ سياسي لا يخرج عن التوجّه لإبطال التهم عنه وإعلان براءته وإعادة الاعتبار له، وكأن شيئا لم يكن. ومن الجانب الآخر ظلت أوساط التحالف الوطني ومعسكر رئيس الوزراء تتصدى للقضية من موقف الإدانة للهاشمي، بإعلان القضية وتفاصيلها في وسائل الإعلام، متجاوزين بذلك مخالفة الأعراف وحرمة القضاء واحترام استقلاله متناسين أن أيّ مداخلة من السلطة التنفيذية في القضية إنما هي إساءة، ولو غير مقصودة، للقضاء وتدخل في شؤونه "وتسييسٌ" للعدالة وهو ما سهَّل للهاشمي والعراقية التشبث بمثل هذه التصرفات والتعكّز عليها في معرض التشكيك بالقضاء واستقلاليته.

لكن الملفت في القضية المثارة لا يكمن في مواقف الطرفين المتصارعين في العملية السياسية ودعاواهما واستغلالهما هذه القضية في تغذية الأزمة السياسية المنفلتة وتصعيدها، بل في ردود أفعال المتهم الهاشمي التي لم تتوقف، والتي ظلت منذ البداية تتخذ لها بعداً "سياسياً خطابياً" متوتراً متناقضاً محموماً ملتبساً، فهو لم يتردد حتى في التحريض وفي محاولة إثارة الفتنة الطائفية حين سعى في أكثر من تصريح إلى مطّ (أناه) وجعلها ممثلا واختصارا لمكون عراقي كريم هو أكبر من أن يختصر تمثيله بفرد أو حزب أو كتلة.. كما أن الهاشمي لم يترك عنصراً من الإثارة دون أن يستخدمه، "لتفنيد التهم" الموجهة إليه، بكيل التهم المعاكسة لكل من يتحفظ على إعلان براءته دون الاستناد إلى قرائن قانونية أو وقائع تبطل التهم عنه. لقد استند الهاشمي في كل مداخلاته الخطابية "المفوّهة" إلى "قرينة" فبركة التهم ضده من المالكي ومعسكره للانتقام منه، وبالتالي فأن "الطابع السياسي" للتهم وفقاً لقرينته تلك يُبطل الدعوى. ومن هذه الفرضية التي لا يجمعها جامعٌ لا بالعدالة ولا بالسياسة، لا يطالب بإبطال التهم عنه بل يصر على إطلاق سراح كل مرافقيه والعاملين معه وإسقاط التهم عنهم، دون أن يستدرك ويطالب بإعادة النظر بالتحقيق أو تدقيق الاعترافات أو المطالبة بالاطلاع على الأوراق التحقيقية من خلال فريق المحامين الذين أوكلهم عنه.

إن متابعة خطابات الهاشمي وأحاديثه الصحفية، حتى قبل القضية المثارة ضده، تكشف بوضوحٍ عن "الثقافة" التي يستمد منها "مفردات" لغته، ومدى تورّطه منذ انتقاله إلى موقعه المتنفّذ كنائب للرئيس في انتهاج سلوكٍ متكلّفٍ، حتى مع محيطه المقرب، إلى وهمٍ تلبسه وأوحى له بدورٍ في الزعامة السياسية يحاكي بها دون أن يدري "القائد الضرورة" وقد يبدو أحياناً أكثر من ذلك. وخلافاً لأسلوب رئيس الوزراء الذي كثيراً ما يستخدم ضمير المتكلم في خطاباته مع ما يُضمنُه من فرمانات القبول والرفض المتعالية، فإن الهاشمي ينأى بنفسه عن صيغة ضمير المتكلم  "الأنا" التي يراها تقليلاً من شأنه، فيستعير ضمير "الغائب" هو "الهاشمي" تفخيماً وتذكيراً بـ"أنويته" المتضخّمة. واستخدام ضمير الغائب في الحديث عن الذات كما هو معروفٌ، كان من بين الأساليب الأثيرة لدى المستبدين والمتغطرسين في السياسة مثلما في الأدب والمجتمع.

إن "التجييش" الطائفي والتحريض على إبداء الولاء له وليس لإصلاح العملية السياسية لم يكونا بعيدين عن خطابات الهاشمي ولقاءاته التلفزيونية والعشائرية، رغم ادعائه الدائم بالولاء للمواطنة التي اتخذها شعاراً لحملته الانتخابية ولكتلته السياسية.

ولابد من القول إن الهاشمي، وهو يواصل حملاته الإعلامية اليومية، يفتقر إلى اللياقة التي تفرضها دواعي الضيافة، إذ لا يراعي الإحراج الذي يسببه لمضيفيه المتهمين، تجنيا بالتستر عليه والتغطية على ما يساق باعتباره جرما موجها ضده. وقواعد الضيافة المتعارف عليها تفرض عليه تجنب إدارة معركته السياسية من مقر استضافته. وقد لا يكون من باب الأثقال عليه البحث عن صيغة يرفع معها مثل هذا الكلام عن قيادة اقليم كردستان ويجنبها إضفاء المزيد من التعقيد على الأزمة المرتبطة بذيول قضيته، خاصة اذا أخذنا بنظر الاعتبار انه شخصيا كان من المطالبين بإزالة الالتباس من تناقضات العلاقة بين الإقليم والمركز، وهي إثارة قصدية كانت تساق للنيل من السياسة الاتحادية للإقليم وحكومتها. وليس بعيدا عن هذا الموقف التشويه المتعمد الذي تسعى التصريحات الصادرة من قبل عناصر حكومية ونيابية لإلصاقها برئاسة الإقليم وتحميلها مسؤولية وجود الهاشمي في كردستان برعاية خاصة منها، مع انه غادر مطار بغداد بموافقة رئيس الحكومة وقيادة الأجهزة الأمنية، رغم تعطيل طائرته بضع ساعات وإعلان الاتهام الموجه ضده، مما يثير شبهة السعي العمد لإدخال إقليم كردستان في خط أزمة الهاشمي.

لقد ترددت في الكتابة عن قضية الهاشمي بعد المقال الأول الذي تناولت فيه ضرورة الاعتماد في معالجتها على القضاء، بمنأى عن أيّ تدخل سياسي، خشية من أي تفسيرٍ يثير شبهة الانحياز ضد من كنت قد رأيت سابقا أنه غير جدير بالمسؤولية. لكن ما أنهى التردد هو استمرار الهاشمي برفض المثول أمام القضاء بحجة الطعن بنزاهته واستقلاليته، والإمعان في تسييس القضية من قبله، وهذا ما جعل من الضروري التوقف عند هذه الظاهرة المشوّهة في العملية السياسية التي يتنكر "صناع السياسة فيها" للقواعد التي ارسوا أسسها، ومحاولاتهم المستميتة، التجاوز على الدستور والقانون أينما كان ذلك خلافا لإرادتهم ومصالحهم. وجاءت تحريضات الهاشمي التي تتكرر منذ الإعلان عن نجاح المساعي العراقية لعقد القمة العربية في بغداد، التي تطالب القادة العرب بإفشال انعقادها إلا إذا أعلنت براءته وأُعيد الاعتبار له، نائباً للرئيس، وربما تمكينه من تصدر القمة، إذا ما تأخر الرئيس عن الحضور، مع انه "سيحضر خلافا لكل التخمينات المريبة"!

وفي هذا السياق يبدو الهاشمي مثل قادة آخرين في العراق الجديد من غير كتلته، ميالاً لاختزال العراق بـ"أناه المتضخمة". فهو لا يستطيع بعد أن تلبسه الوهم لسنوات أن يفترض العراق يعيش دون أن يكون مركز اهتمام العراقيين والعالم به، فكيف إذا انعقدت القمة العربية برئاسة العراق، ولن يتكرر ذلك إلا بعد أكثر من عشرين سنة دون أن يكون هو المحتفى به بين القادة العرب. إن من الصعب عليه أن يرى العراق يدور في غير محور أقطابه، قادة الكتل، فلا قيمة للعراقيين او للعملية السياسية او المصالح الوطنية العليا دون أن يكون هو، كما هم عليه آخرون من أشباهه الملوثين بعدوى كراسي السلطة في مركز الأضواء والقرار.

والواقع إن هذه الأنوية لدى الهاشمي في النزوع السلطوي، ليست حكراً عليه، إنما هي سُنّةٌ شاعت بين كل قادة البلاد منذ سقوط الطاغية. حيث يتوهم من يعتقد بأن الكرسي السحري ليس في أساس هذا الاحتراب الجاري في العراق الجديد.

إن الهاشمي والمطالبين بمعاقبة العراق والشعب العراقي استقواءً بالقادة العرب بدعوتهم لإفشال قمة بغداد، إنما يميطون اللثام عن طبيعتهم الحقيقية التي لا تجسد بأي حال من الأحوال مصالح العراق وشعبه، ولا تستقيم مع دعاواهم في تمثيلهم لأي مكون فيه.

 وبخلاف كل هذا فإن على الهاشمي وهو يدافع عن براءته، أن يعتمد الإجراءات الأصولية التي تثبت براءته وإعادة تقويم سلوكه الخطابي، ولعله بذلك يعيد النظر في الطريق الذي قاده إلى ما هو فيه من محنة شخصية قبل أن تكون مثلبة سياسية.. إن في مثل هذا التصرف ما قد يساعد الهاشمي نفسه، سواء في إثبات براءته، أو في التخلص من الممانعة التي يتمسك بها ضد القانون.. وبخلاف كل هذا أيضاً فان الهاشمي يستمر بإحراج سلطات الإقليم، ويقدم مثالا غير جيد على سلوك المستجير، وهذا ما قد يجعل ربما السلطات في الإقليم تفكر بالعمل على تحديد حريته بالحركة والتصرف والاتصال سواء بالإعلام أو بالآخرين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram